نضالية وهمية هدفها التكسب السياسي على حساب الفلسطينيين.
تيارات الإسلام السياسي وهي تنقضّ بكل ما أوتيت من بلاغة الخطاب وفصاحة التعبير على اتفاق السلام المعلن بين الإمارات وإسرائيل وتهوي عليه بأقوى عبارات الشجب والإدانة، لم تستطع تجنّب الوقوع في تناقضات حادّة في مقدّمتها أن تلك التيارات نفسها حليفة لدول ذات رصيد كبير في مجال التطبيع سرّا وعلانية كما هي حال جماعة الإخوان المسلمين في علاقتها مع كلّ من تركيا وقطر.
لندن – أتاحت التطورات النوعية التي حدثت مؤخّرا في مسألة تطبيع العلاقات الإسرائيلية العربية، لتيارات الإسلام السياسي بمختلف تفريعاتها ومشاربها الفكرية والأيديولوجية وانتماءاتها الطائفية، فرصة ثمينة لإعادة تلميع واجهاتها ونفض غبار العشرية الجارية التي كان لتلك التيارات الدور الأكبر في جعلها إحدى أحلك مراحل التاريخ المعاصر للمنطقة.
وعندما تبارت جماعة الإخوان المسلمين بمختلف فروعها المحلية في البلدان العربية مع الأحزاب والميليشيات الشيعية في العراق ولبنان واليمن في “رفض وشجب وإدانة” خطوات التطبيع بين الإمارات وإسرائيل بـ”أشد العبارات” لم تكن تلك التشكيلات الإسلامية إلاّ بصدد التسابق والتنافس على استخدام أداة قديمة من أدوات التسويق السياسي والأيديولوجي وهي القضيّة الفلسطينية التي مثّلت طيلة عشريات من الزمن وسيلة فعّالة لاستمالة شرائح واسعة من الجماهير العربية والإسلامية نظرا لجمعها بين البعدين الإنساني والديني برمزية مقدّساتها ومعالمها الإسلامية فضلا عن المسيحية.
سبق وريادة
لم تكن عبارات الشجب والإدانة المتوهّجة لتخفي كمّ التناقضات الكامنة وراء مواقف التيارات والأحزاب الإسلامية من مسألة التطبيع.
ويأتي على رأس تلك التناقضات ارتباط أبرز متزعمي مناهضة تطبيع العلاقات مع إسرائيل بقوى وبلدان “رائدة” في مجاله وسبّاقة إليه، وهو ما ينطبق بشكل واضح على جماعة الإخوان المسلمين التي وجّهت مختلف فروعها سهام نقدها للإمارات بعد أن ظلّت لفترة طويلة تغض الطرف عن تركيا وقطر اللتين قطعتا أشواطا كبيرة في التعاون والتواصل والتنسيق مع إسرائيل، مع فارق أن أنقرة تضع علاقاتها الواسعة مع تل أبيب ضمن إطار رسمي معلن، بينما تتكتّم الدوحة على تلك العلاقات لأسباب تتفهمها وتقبل بها تل أبيب نفسها وحتى حليفتها واشنطن، ما دامتا تضمنان كم المصالح ذاته في حال ترسيم العلاقات أو عدمه.
ولا يجهل الإخوان وهم يرفعون أصواتهم ضدّ تطبيع العلاقات مع إسرائيل حقيقة أن تركيا التي تحوّلت خلال السنوات الأخيرة إلى حاضنة رئيسية لهم وفتحت أبوابها لاحتضانهم واستقبال عناصرهم الفارّة من بلدانها الأصلية، طورت على مدى العقود الماضية، بما في ذلك خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان علاقاتها مع إسرائيل وارتقت بها إلى مرتبة التعاون الاستراتيجي في مختلف المجالات بما في ذلك مجالي الأمن والدفاع.
فتركيا التي كانت في مقدمة الدول التي اعترفت بإسرائيل وأقامت معها علاقات رسمية قبل انقضاء السنة الأولى على قيامها في نهاية أربعينات القرن الماضي، لا تحتفظ فقط بعلاقات تجارية واقتصادية معها قوامها حوالي ستة مليارات دولار سنويا ويجري العمل إلى رفعها إلى عشرة مليارات، بل إنّ تعاون الطرفين في مجال الصناعات العسكرية لا يتقدّم عليه، من حيث الأهمية، سوى التعاون الإسرائيلي الأميركي في هذا المجال، حيث تحتضن الأراضي التركية بعض أكبر مصانع سلاح الجيش الإسرائيلي، فضلا عن أنّ مجالها الجوّي ومعسكرات جيشها مسرح مثالي لتدريب الطيارين وتقنيي سلاح الجوّ الإسرائيليين.
ومن المفارقات أن التعاون العسكري التركي الإسرائيلي شهد قفزة نوعية أعطته انطلاقة جديدة في بداية أول تجربة لحكم الإسلاميين في تركيا في أواسط عقد التسعينات من القرن الماضي في عهد حكومة نجم الدين أربكان، وذلك بإبرام أنقرة وتل أبيب اتفاقيتين عسكريتين إحداهما في مجال التدريب والمناورات يتمّ السماح بموجبها للطيارين الحربيين الإسرائيليين باستخدام الأجواء والقواعد التركية أربع مرات في السنة في مقابل نقل إسرائيل بعضا من خبراتها وتكنولوجياتها العسكرية المتطورة إلى الجانب التركي.
أمّا الاتّفافية الثانية فتنصّ على تبادل زيارات الوفود العسكرية والتعاون في مكافحة الإرهاب وأمن الحدود والتعاون الجوي والبحري.
وفي 2008 عندما كان الطيران الإسرائيلي يدكّ قطاع غزة في عملية الرصاص المصبوب التي خلّفت المئات من القتلى والجرحى في صفوف سكّان القطاع، جلب انتباه أحد مراسلي القنوات الفضائية الدولية الحماس التركي الشديد في إدانة العملية بأشد العبارات والنعوت، فعلّق مستغربا “لا أكاد أفهم موقف تركيا.. أظنّ أنها أحد مصادر الرصاص الذي يصبّ على غزّة، لكنّي متأكّد أن الطيارين تدرّبوا على صبّه في تركيا ذاتها”.
اللعبة المزدوجة
من المؤكّد أنّ الإخوان المسلمين لا يجهلون مختلف تلك الحقائق بل يتجاهلونها وهم ينخرطون في حملة الصراخ التركية ضد تطبيع العلاقات الإماراتية الإسرائيلية، تماما مثلما يتجاهلون حقيقة أنّ داعمتهم وحاضنتهم الثانية قطر كانت سبّاقة لإقامة علاقات سرّية قوية مع إسرائيل منذ عقد التسعينات حين تمّ فتح مكتب التمثيل التجاري الإسرائيلي في الدوحة والذي كانت أنشطته أوسع بكثير من مجال التجارة وامتدّت إلى المجالات السياسية والأمنية حتّى أنّ إيلي أفيدار الذي سبق له أن ترأس البعثة الإسرائيلية في قطر لسنتين وصف المكتب بأنّه كان يقوم مقام سفارة رغم رضا تلّ أبيب بالشرط القطري بعدم رفع العلم الإسرائيلي فوق مقرّه أو وضع لافتة على واجهته، ما دام يحقّق المصلحة المرجّوة منه.
وتظل تفاصيل السبق القطري إلى التطبيع مع إسرائيل كثيرة، من التطبيع الإعلامي وفتح قناة الجزيرة القطرية أمام الإسرائيليين للوصول إلى المُشاهد العربي ومخاطبته بشكل مباشر، إلى تبادل الزيارات غير المعلنة بين كبار المسؤولين من البلدين إلى استقبال الوفود الرياضية الإسرائيلية في قطر، لكنّ الاستثنائي في كلّ ذلك هو الدور المزدوج الذي ظلّ النظام القطري يمارسه، سعيا لتحقيق معادلة كسب صداقة إسرائيل كأحد مفاتيح توثيق التحالف مع الولايات المتّحدة والحصول على ثقتها ورضاها، وفي نفس الوقت تصوير الدوحة كمساند لـ”محور المقاومة” ونصير للقضية الفلسطينية التي كثيرا ما مثّلت أفضل أداة لمخاطبة وجدان رجل الشارع العربي ودغدغة مشاعره القومية والدينية.
فترة حكم الإخوان القصيرة في مصر أظهرت حرصهم على الحفاظ على العلاقات المصرية الإسرائيلية واستعدادهم لتنميتها
ولم تكن قطر لتنجح في ممارسة تلك اللعبة المزدوجة طيلة هذه السنوات دون تواطؤ الإخوان المسلمين ممثلين بحركة حماس المسيطرة على قطاع غزّة، حيث أصبحت حقائب المال القطري التي تدخل إلى القطاع عبر إسرائيل نفسها وبموافقة تلّ أبيب، عاملا أساسيا في صياغة المشهد السياسي والعسكري هناك، ووقودا لتكريس انفصال غزّة إداريا وسياسيا عن باقي الأراضي الفلسطينية، ووسيلة لفض الاشتباكات التي تحدث من حين لآخر بين الجيش الإسرائيلي والجناح العسكري لحماس، وضامنا لتثبيت ما يتم التوصل إليه من اتفاقات على التهدئة.
ولا يجهل قادة الإخوان أنّ ما تقوم به قطر في غزّة يُسدي خدمة كبيرة لإسرائيل عبر تكريس الانقسام الفلسطيني ومساعدة تلّ أبيب على إدارة ملف قطاع غزة الذي اختارت سنة 2005 الانسحاب منه في إطار خطة رئيس الوزراء الأسبق أريال شارون المعروفة بخطّة فك الارتباط، ومع ذلك يفسح الإخوان المجال لقطر للتمادي في القيام بهذا الدور المعقّد لأنّه يحقّق لهم مصلحة فئوية مباشرة، وإن على حساب القضيّة الفلسطينية الأشمل.
ولم يكن كشف العلاقات الوثيقة بين قطر وإسرائيل يحتاج لأكثر من سؤال: ما الذي يجعل الدوحة وسيطا موثوقا به من قبل تلّ أبيب ومموّلا مقبولا لحماس رغم إمكانية أن يرتدّ المال القطري على إسرائيل ذاتها.
مثل هذا السؤال لا يريد الإخوان المسلمون طرحه، لأنّه يقود ببساطة إلى حقيقة أنّ قطر ضالعة في التطبيع منذ سنوات طويلة، لكنّه تطبيع حلال ما دام ممارسه حليفا ومموّلا، على عكس التطبيع الحرام الذي ينخرط فيه الخصوم. فهل حقّا يرفض الإخوان من حيث المبدأ تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
كشف المستور
حين سقط نظام الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في مطلع العشرية الحالية وصعدت جماعة الإخوان ممثّلة بمحمّد مرسي إلى سدّة الحكم، ذهب في ظنّ الملايين من البسطاء عربا ومصريين، بما في ذلك قواعد الجماعة، أنّ الحكّام الجدد “المتّقين” سيبادرون إلى الانسحاب من معاهدة كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل والتي وقّعها أنور السادات سنة 1979 وقتل بسببها على يد أحد الإسلاميين، لأنّها بحسب ما هو منصوص عليه وموثّق في أدبيات الجماعة مجرّد “استسلام”، ولأنّها “سحبت مصر من الصراع وأطلقت يد إسرائيل لتعربد كما تشاء في المنطقة.. وأضعفت المقاومة الفلسطينية، ووضعت سيناء رهينة دائمة في يد إسرائيل بحيث تستطيع أن تعيد احتلالها في أي وقت تشاء”.
غير أنّ عبارة “عزيزي وصديقي العظيم” التي كتبها محمّد مرسي في ديباجة رسالته إلى “صاحب الفخامة السيد شمعون بيريز رئيس دولة إسرائيل”، لإعلامه باسم المرشّح لشغل منصب سفير مصر لدى إسرائيل، قطعت الشك باليقين وأثبتت للمرّة الأخيرة أن الشعارات المتوهّجة التي ظل الإخوان يرفعونها رفضا للسلام مع إسرائيل ولتطبيع العلاقات معها، لم تكن أكثر من وسيلة لدغدغة المشاعر واستمالة الجماهير في عملية السعي للوصول إلى السلطة.
لعبة دغدغة المشاعر الدينية والقومية باستخدام القضية الفلسطينية التي يجيدها الإخوان تتضلّع فيها أيضا باقي حركات الإسلام السياسي، بما في ذلك الأحزاب والميليشيات الشيعية المرتبطة بإيران، والتي وجدت في تطبيع العلاقات الإماراتية الإسرائيلية، فرصة لمحاولة استمالة الشارع في عدد من البلدان العربية في أوج نفوره منها وغضبه عليها بفعل ما جرّته على شعوب تلك البلدان من ويلات ومآس، وهو ما ينطبق على العراق الذي تغلي مدن جنوبه ووسطه منذ خريف العام الماضي غضبا على نظام الأحزاب الدينية والطائفية، وما ينطبق على لبنان المختطف من قبل حزب الله والمهدّد بـ”الاختفاء” وفق عبارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، مثلما ينطبق أيضا على اليمن الذي أغرقته ميليشيا الحوثي في حرب جعلت منه موطنا لأكبر كارثة إنسانية في العالم.
ومن المفارقات أنّ التيارات والأحزاب الإسلامية التي أحدثت كلّ ذلك الدمار في البلدان العربية، هي من ترفع شعار مواجهة إسرائيل ومقاومتها، دفاعا عن القضية الفلسطينية التي تحولت إلى تفصيل في زحمة القضايا العربية المستجدّة، بحيث يمكن الحديث عن القضية العراقية والسورية واللبنانية والسودانية والصومالية والليبية واليمنية. وهي قضايا لا يخفى دور الأحزاب والتيارات الإسلامية في تفجيرها.