لقد شهد الوطن العربي أربع هجمات خطيرة و شرسة،استهدفت الوجود العربي كلّه،تمثلت الأولى في الحملات الصليبية،وتمثلت الثانية في التتار،والثالثة في محاولات العثمانيين من سياسة التتريك ومسخ لغة الإنسان العربي وثقافته ووجوده ،وتمثلت الأخيرة في الهجمة الأوروبية الغربية الإستعمارية التي مزّقت الوطن العربي واحتلته كله عبر مجموعة من المناورات والسياسات والوعود الإستعمارية الخادعة والكاذبة، فبعد قيام الحرب الكونية الأولى عام 1914، انضمّت تركيا إلى دول المحور وانضمّ العرب إلى الحلفاء، ولأوّل مرّة ينفصل العرب عن العثمانيين، ولقد تدخّل الحلفاء وأبرزهم بريطانيا في ازجاء الوعود الخلاّبة للشريف حسين في الإستقلال وتأسيس المملكة العربية بزعامته.
إلا أنّ تعاقب الأحداث سرعان ما كشف الخديعة كاملة،فقد أصدر اللورد بلفور وزير خارجية بريطانيا تصريحه المشؤوم في نوفمبر 1917، ثم نشرت بنود معاهدة سايكس بيكو السرية المبرمة في مارس 1916 بإقتسام الوطن العربي.. وهكذا تمّت اللعبة وتمزّق -هذا الوطن- بكامله وابتدأت مرحلة الدويلات والحدود المصطنعة بعد أن احتلّت بريطانيا العراق وأعلنت حمايتها على مصر والسودان قبلها، وكانت ايطاليا قد بسطت نفوذها على ليبيا، وفرنسا على المغرب العربي كلّه، أما سوريا فقد احتلتها القوّات الفرنسية بعد لبنان واحتلت بريطانيا المنطقة الجنوبية (شرق الأردن) وفلسطين، وبذلك تكشّفت نوايا الغرب الإستعمارية وسقطت الأقنعة مرّة واحدة، لا سيّما أنّ عصبة الأمم قرّرت أنّ هذه البلدان لا زالت في حاجة إلى وصاية وإرشاد بعض الدول الكبرى..
ومنذ تجزئة الوطن بعد –سايكس بيكو- ووعد بلفور وتكريس الحدود القطرية الحالية،ثم منذ قيام الدول القطرية المستقلة ضمن هذه الحدود في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ظلّ هاجس الوحدة العربية مطلبا شعبيا يتفاعل مع طموحات الشعب العربي ويؤسس لمشروع عربي قومي عام، ورغم أنّ الوحدة الجزئية التي تمّت بين مصر وسوريا (1958-1961) لم تدم أكثر من ثلاث سنوات ونصف، إلا أنّها ظلّت بدورها هاجعة في الذاكرة الجماعية، وتحرّك الوجدان العربي بإعتبارها جاءت في عنفوان المد القومي التحرري المعاصر، وبعد تأميم القناة وانتصار السويس، كما أنّها أفرزتها إرادة شعبية عارمة، هي جزء من سلسلة متصلة من الإنتفاضات الثورية ضد الإستعمار والإستبداد في المغرب وتونس والجزائر والعراق وغيرها من بلدان الوطن العربي.
ورغم الإنحسار النسبي لهذا المشروع القومي في أعقاب تفسّخ الجمهورية العربية المتحدة،ثم انتكاسته الكبرى إثر هزيمة 67، إلا أنّ المطلب الشعبي المنادي بالوحدة ظلّ قائما ومتفاعلا مع المستجدات العربية كلّما تضاعفت النكبات وأوغل اللّيل العربي في الدياجير..
تداعيات فشل المشروع الوحدوي ومظاهر الأزمة في الدولة القطرية:لقد ظلّ هاجس الوحدة القومية مطمحا عربيا يستلهم مشروعيته ويحدّد أهدافه في ضوء الفجوة بين حماسة الشعوب العربية وبرودة عقل الأنظمة السياسية التي غدت دون مستوى الحماسة الشعبية رغم أنّها قد أعلنت معظمها في“مواثيق استقلالها “أو“دساتيرها“ أنّ كل قطر منها هو “جزء لا يتجزأ من الوطن العربي“ أو أنّ شعبها “هو جزء لا يتجزأ من الأمّة العربية“ لذلك تماهت مع مطالب شعوبها المنادية بالإنصهار في مشروع عربي قومي عام حفاظا منها على الشرعية في بعض الأحيان وركوبا للموجة في البعض الآخر، حتى أنّ ذاكرة القيادات السياسية العربية أصيبت بالتناقض والتداخل بين ما تقوله وما تفعله، وما تظهره وما تبطنه،وغدت تبعا لذلك “تتصرّف أو تسلك إزاء أهدافها الوطنية وأحيانا النخبوية طريق القومي والوحدوي، حيث تتحوّل المثاليات القومية إلى غطاء يتستّر على كل سلوك سياسي موغل في القطرية“ (1). ولعلّ انحسار المشروع القومي العام تجلى بوضوح في أعقاب المساندة العربية الجماعية شعبيا وحكوميا لدعم مصر وسوريا في حرب 1973 إذ غدا كل نظام عربي يؤسس بمفرده “لمشروعه القطري الخاص“ وتزامن ذلك مع الطفرة النفطية–المالية لبعض الأقطار، وإحساس حكّامها بأنهم قادرون على منح شعوبهم الرفاهية والتقدّم بمعزل عن الإلتزام بالمشروع القومي العام. إلا أنّ هذه–التخمينات –ضلّت طريقها السوي واصطدمت بمطبات أحبطت قدرة هذه الدول القطرية على البقاء والإستمرار بمشروعها الخاص:
– اندلاع حرب أهلية طاحنة في لبنان عام 75 واستئناف حرب أهلية أخرى في السودان.
–استباحة التراب القومي العربي بواسطة دول الجوار غير العربية في العراق والسودان وليبيا والصومال بواسطة إيران واثيوبيا وتشاد.
– نشوب صدامات عربية-عربية بين كل من اليمنين،و مصر وليبيا،والمغرب والجزائر،وقطر والبحرين.–استباحة أوّل عاصمة عربية بجحافل الغزو الإسرائيلي.
– نشوب حرب الخليج بين إيران والعراق عام 1980 مما زاد في تصدّع النظام العربي الإقليمي.
هذه الأعراض وغيرها تعكس في جوهرها تداعيات الأزمة الخانقة لمؤسسة الدولة القطرية في الوطن العربي، بعد تخليها عن المشروع العام وانصرافها للمشروع القطري الخاص. ولقد تجلى العجز العربي في أردى صوره أثناء حصار بيروت في صيف 82، حينما وقفت ما يناهز عشرين دولة عربية تشاهد استنزاف قطر عربي وعاصمة عربية على أيدي العدوّ الصهيوني الغاشم دون أن تجرؤ على التدخل بإستثناء إطلاق كلمات الشجب والإدانة والهرولة صوب عواصم الدول الكبرى طلبا للإغاثة، ولم يكن هذا المشهد الحزين هو المظهر الوحيد للعجز العربي، فلقد تلته مظاهر أخرى ترجمت العجز تجاه إسرائيل وبرهنت على فشل مؤسسة الدولة القطرية في مجابهة التحديات الداخلية والخارجية، نورد منها على سبيل الذكر لا الحصر ما يلي:
– العجز عن حماية الإستقلال الوطني.
– فشل مشروع التنمية المستقلة.
– العجز عن بلورة الخطاب الحضاري والثقافي علاوة عن الإنغلاق على الذات وإقصاء الجماهير عن المشاركة السياسية وصنع القرار.
– عدم القدرة على إرساء أسس ديمقراطية وإقرار عدالة إجتماعية.
إنّ هذا العجز بمختلف أشكاله مرده مثلما ذكرنا،فشل الدولة القطرية في خياراتها السياسية وعدم قدرتها على مجابهة التحديات بإعتبارها تابعة بدرجة أو بأخرى لدولة أجنبية تدور في فلكها وتتسوّل منها العون الإقتصادي والعسكري دون أن تكون لها القدرة على استثمار هذا “الدعم“ في بناء نفسها داخليا أو كذلك الدفاع عن نفسها خارجيا، وبذلك أصبح المواطن العربي في ظل هذه المدارات القطرية الضيقة محاصرا من الخارج بمحاولات الهيمنة والتسلط والتبعية واستلاب الفكر، الأرض والعرض، ومطوقا من الداخل بالممارسات التسلطية لأنظمته وهذه القيود المزدوجة أثبطت قدرات الأمة العربية وحالت دون خروجها من قمقم التخلف أو التخلص من قيود التبعية وظلّت بالتالي تتخبّط في مأزق تاريخي دفعتها إلى داخله مؤسسة الدولة القطرية التسلطية في الوطن العربي.. جدلية الوحدة.. والتجزئة: لمواجهة تنامي المد القومي الوحدوي وإحباط -إشراقات- التطوّر على طريق الوحدة العربية، دارت الصراعات العربية- العربية خلال أخصب سنوات القرن العشرين في حياة الأمة العربية وتركت آثارا مؤلمة ومدمرة حول “جدلية الوحدة والتجزئة“ وقد تمحورت هذه الصراعات في مجملها حول مناهج وأهداف التمية الإقتصادية، أو حول الديمقراطية والمشاركة السياسية، وبالعودة إلى جذور الخلافات، يتجلى بوضوح أنّ التقدّم على طريق الوحدة والتغيير الإقتصادي–الإجتماعي استفزّ القوى المستفيدة من واقع التجزئة وخلخل مواقعها الإقتصادية والسياسية والإجتماعية، وأصبحت بالتالي مهددة نتيجة تبلور الخطاب الجماهيري الوحدوي الذي يستلهم أدبياته من الحركة القومية العربية بقيادة –عبد الناصر– الأمر الذي حرّك أدران المجتمع العربي الإقليمية والطائفية والإنتهازية وكل مزايدات عصر الإنحطاط ووضع في ذات الوقت كل المسفيدين من تداعيات الواقع المأزوم أمام تحد مصيري مما جعل البعض منهم يكرّس شعار“الخصوصية القطرية“مدعيا أنّ “الفكر القومي أجاب عن سؤال التجزؤ بحل قبلي،يتصل بموقف سياسي موحّد،هو الدعوة للوحدة العربية،في حين أنّ هناك فرقا بين مصر ومراكش،وبين شرق الأردن ومقاطعة فزان(2)”وغدا البعض الآخر يطاب بضرورة “مراعاة الظروف الإقليمية“إذا أريد لأي عمل إقليمي البقاء والنمو،إلا أنّ كل هذه المواقف المحبطة للمشروع الوحدوي لم تكن وليدة دراسة علمية موضوعية بقدر ما كانت إفرازا عقيما لتيار قطري تشكّل من القوى الإقليمية التقليدية والجديدة على اختلاف تلاوينها السياسية والفكرية وقد شكّلت في جوهرها نواة رفض،و“معوقا موضوعيا للطموح الوحدوي التاريخي المتجذّر في التربة العربية(3)” وهذا ما جعلها ترفع شعار“الخصوصية القطرية“متجاهلة حقائق جوهرية تتساوى فيها جميع الأقطار العربية دون إعتبار التباينات والتمايزات التي لا تنكَر،وهذا يعني أنّّ استجلاء كامل أبعاد“جدلية الوحدة والتجزئة“ لا يكتمل دون صياغة الخصوصيات الثلاث التالية صياغة ذات منحى سوسيو/تاريخي وهي:–خصوصية الإنتماء لوطن واحد وأمة واحدة،والإنتماء لحضارة مشتركة.
– خصوصية عمق مقومات الوجود القومي والطموح الوحدوي.
–خصوصية الإنتماء لمجموعة “دول الجنوب“.إنّ قراءة عابرة لتاريخ العرب المعاصر، تجعلنا نستشف عمق مقومات الوجود القومي العربي في فكر النخب ومخيال الجماهير بما يعني أنّ المكوّن الحضاري العربي الإسلامي أعمق من طفرات التجزئة مهما شهد الوطن العربي من مستجدات مؤلمة، ولذا فإنّ الشعوب العربية متجاوبة مع الخطاب القومي شريطة أن تتوفّر لها الأرضية الخصبة للتفاعل مع هذا -الخطاب- وذلك من خلال إرادة واعدة وقيادات فاعلة ومؤثرة في سياق التاريخ وقادرة بالتالي على تفعيل الوعي القومي المتجذّر، ولعلّ دروس الماضي كفيلة بأن تجعلنا نلج ذواتنا كي نستخلص العبر وندرك دون مواربة عقم الصراعات العربية العربية وعدم قدرتها على مواجهة التحديات الموروثة والمستجدة.
بالإضافة إلى هذا وذاك، افتقار الوطن العربي إلى وجود كتلة تاريخية تمتلك القدرة على إحداث التغيير اللازم لتجاوز مطبات الواقع المأزوم. ولذا فإنّ الحاجة أمست ملحة أكثر من أي وقت مضى لبلورة رؤية عربية متكاملة حول المتغيرات الدولية تتيح لنا جميعا تجاوز الموقف الراهن إلى ما هو أفضل، ولن يتحقق ما نرومه إلا بإخضاع التجارب الذاتية لمعايير النقد التي تحاكَم بها تجارب الآخرين، علّنا نتوصّل إلى صياغة مشروع حضاري عربي جديد،قوامه الإستفادة من دروس الماضي في فهم قضايا الحاضر واستشراف احتمالات المستقبل، وذلك بإعتماد قراءة واعية للواقع المعاش بأبعاده المحلية والإقليمية والدولية تجعلنا نتصدى بإرادة عالية لتحديات القرن الواحد والعشرين، المستحيل مواجهتها إلا بتكامل قومي على مختلف الصعد.
محمد المحسن