تعثّر خطوات الجيش السوداني توازي فرص تثبيت أركانه في السلطة.
يواجه الجيش السوداني الذي سيطر على السلطة الاثنين إدانات وتنديدا واسعا محليا ودوليا، دفع بقائده عبدالفتاح البرهان إلى تخفيف حدّة لهجته وتقديم وعود وخطط عملية مطمئنة بإمكانية العودة إلى الحكم المدني مع تجنب أخطاء حكومة عبدالله حمدوك، وهي في باطنها لهجة تكشف مدى إدراك المكون العسكري لقوة الشارع في السودان الذي اكتسب “خبرة” في إسقاط الأنظمة العسكرية، وعدم استطاعة هذا المكوّن التخلي عن الدعم الأممي والدولي.
الخرطوم - حاول قائد الجيش السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان امتصاص حالة الغضب جراء قرارات وضع بمقتضاها يد المكوّن العسكري على السلطة، وبعث الثلاثاء بإشارات عديدة حول إمكانية تخفيف الإجراءات التي اتخذتها الأجهزة الأمنية بحق عدد من أعضاء مجلسي السيادة والوزراء المعتقلين، وتعهد بالإفراج عن “المحتجزين الذين لم يتورّطوا في جرائم جنائية خلال الأيام المقبلة”.
وكشف البرهان في مؤتمر صحافي عقده الثلاثاء عن مكان رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، وقال إنه يتواجد في منزله بدار الضيافة وسيعود إلى مقر إقامته قريبا، مشيرا إلى أن حمدوك “لم يكن باستطاعته العمل بحرية لأنه كان مقيدا من الناحية السياسية وتم إبعاده للحفاظ على سلامته”.
لهجة معتدلة
ألقى البرهان ما يمكن وصفه بـ”الطُعم” للقوى السياسية غير المتوافقة مع تحالف الحرية والتغيير، والمناوئة بشكل كامل للتعاون مع المكوّن العسكري، وأتاح الفرصة أمامها للمشاركة في هياكل السلطة الانتقالية دون أن يوضح ماهية تلك القوى التي ينوي التنسيق معها.
ويقول متابعون إن الأحزاب التي ينوي الجيش التعاون معها هي ذاتها التي شكلت القاعدة العريضة لـ”اعتصام القصر”، إلى جانب عدد من الأحزاب المتحالفة مع حزب المؤتمر الوطني المنحل، وأطياف واسعة من القبائل والمكونات الصوفية والدينية التي تتماهى مع الأنظمة الموجودة على رأس السلطة مهما كانت توجّهاتها.
ووعد البرهان بسدّ الثغرات التي تركتها حكومة حمدوك، ومنها تشكيل المحكمة الدستورية ومجلس القضاء العالي وتعيين النائب العام الشهر الجاري، وأشار إلى أن الحكومة المقبلة سيتم تشكيلها بشكل يرضي كل أهل البلاد، وأنّ على كل ولاية ترشيح ممثل عنها لشغل المنصب الحكومي، وستكون الحكومة كلها مشكّلة من الكفاءات وليس من السياسيين.
ويشير المتابعون إلى أن ردّة الفعل القوية على مستوى الشارع ودخول الخرطوم وبعض المدن الأخرى في عصيان شامل، وحالة الذعر التي أصابت المواطنين بعد أن ذكّرتهم خطوات الجيش بانقلابات سابقة انعكست سلبا على الأوضاع طيلة العقود الماضية، والرفض الدولي الواسع والحديث الأميركي عن تعليق المساعدات، كلها دفعت إلى تهدئة لهجة الجيش التي توضّحت في خطاب فرض الطوارئ.
وحاول البرهان نفض يد الجيش والأجهزة الأمنية المتحالفة معه من أي عراقيل واجهت المرحلة الانتقالية، وألقى بالمسؤولية كاملة على عاتق القوى السياسية التي اتهمها بأنها من “رفضت إعادة تجربة سوار الذهب”، في إشارة إلى جنرال الجيش السابق الذي سلم السلطة للمدنيين، وأنها “أرادت الاستفراد بالمشهد واختطفت المبادرات التي أطلقها حمدوك”.
ورد الأمين العام لحزب الأمة القومي الواثق البرير قائلا “إنه مهما كان التباين بين القوى المدنية فذلك لا يُعطي سببا لاغتيال الوثيقة الدستورية وفض الشراكة والرجوع إلى المربع الأول للحكم العسكري، وإن خطوات الجيش كانت متوقعة، والشارع بدا أكثر قدرة على صدّ الانقلاب العسكري”.
وشكك البرير في إمكانية إتاحة الفرصة أمام القوى السياسية لمراقبة المرحلة الانتقالية والتشاور معها في استكمال هياكل السلطة، لأن قادة الجزء الأكبر من الأحزاب التي شاركت في المرحلة الانتقالية الفترة الماضية أضحوا في المعتقلات، وسيكون من الصعب التواصل مع القواعد، وهو أمر لا يتفق مع قواعد العمل السياسي.
وأوضح أن القوى السياسية تعمل على محاولة لملمة صفوفها ولديها توافقات على مقاومة الإجراءات الأخيرة بكافة السبل السلمية، لكن هناك مخاوف من أن تتصدر أي شخصية سياسية أو حزبية المشهد لأنه سيكون مصيرها الاعتقال والأمل في أن يستمر الشارع في صموده أطول فترة ممكنة.
تحديات محلية ودولية
ينتظر السودان موقف الحركات المسلحة لمعرفة مدى قدرة الجيش على بناء حاضنة سياسية له خلال الفترة المقبلة، إذ أن حركة جيش تحرير السودان (جناح مني أركو مناوي)، وحركة العدل والمساواة اللتين قادتا القوى السياسية المنشقة عن قوى الحرية والتغيير، لم تعلنا عن مواقفهما بوضوح، والحركتان لديهما حضور واسع في دارفور، إلى جانب باقي حركات سلام جوبا باستثناء الحركة الشعبية شمال (جناح مالك عقار) التي أعلنت رفضها لما وصفته بـ”الانقلاب”.
وتبدو فرص نجاح خطوات البرهان متساوية مع قدرته على تثبيت أركان المكوّن العسكري على رأس السلطة، لأن التحركات الخارجية تبرهن على وجود دعم فاعل للقوى المدنية، وإن لم تصل الولايات المتحدة إلى مرحلة فرض العقوبات فالاتصالات التي تقوم بها مع جيران السودان تشي بأنها تضغط باتجاه دفع البرهان إلى التراجع.ينتظر السودان موقف الحركات المسلحة لمعرفة مدى قدرة الجيش على بناء حاضنة سياسية له خلال الفترة المقبلة، إذ أن حركة جيش تحرير السودان (جناح مني أركو مناوي)، وحركة العدل والمساواة اللتين قادتا القوى السياسية المنشقة عن قوى الحرية والتغيير، لم تعلنا عن مواقفهما بوضوح، والحركتان لديهما حضور واسع في دارفور، إلى جانب باقي حركات سلام جوبا باستثناء الحركة الشعبية شمال (جناح مالك عقار) التي أعلنت رفضها لما وصفته بـ”الانقلاب”.
كما أن السودان لن يستطيع التخلي عن الدعم الأممي والدولي، لأنه ليس اقتصاديا وماليا فحسب، بل إن جهود الأمم المتحدة التي تشارك في عملية دعم التحول الديمقراطي تساعد السلطة على مجابهة الانفلاتات المتوقعة في أقاليم الهامش حال اتسع نطاق العصيان المدني ووقع المزيد من العنف والفوضى، وأن النظام الموجود على رأس سدّة الحكم سيكون بحاجة إلى دعم يساعده على تقويض حدّة الانفلات.
وما زالت منظمات المجتمع المدني في السودان تحظى بشعبية في الشارع انعكست في الاستجابة للخروج في مليونية الحادي والعشرين من أكتوبر الماضي، ولديها قدرة على تنظيم التحركات بالتعاون مع تنسيقيات لجان المقاومة التي تمكنت من إخفاء قياداتها البارزين خوفا من اعتقالهم ولعبها دورا مهما في تتريس الشوارع لنجاح العصيان المدني.
ولفت المحلل السياسي عبدالواحد إبراهيم إلى أن قدرة الشعب السوداني على تنظيم الاعتصامات التي تقود إلى إسقاط الأنظمة العسكرية في ثلاث مرات سابقة قادرة على تكرار الأمر هذه المرة، لأن المكون العسكري يفتقر للظهير الشعبي الذي يجعله قادرا على تمرير خطواته بشكل سلس، وقد تكون البلاد معرضة لموجات من العنف لكنها في النهاية ستمهّد للعودة إلى الحكم المدني والوثيقة الدستورية.
وأشار إلى أن الشعب لا يعوّل كثيرا على اتخاذ إجراءات ضاغطة على قوات الجيش، وأن قضايا السودان التي ظلت في أدراج الأمم المتحدة سنوات لم يجر النظر فيها لأنها تتعارض مع مصالح قوى لديها مصلحة في استمرار الحكم العسكري.
وغازل البرهان قوى عربية وإقليمية لديها تخوفات من سيطرة الحركة الإسلامية على الحكم، قائلا “لن يسمح لأي جماعة تحمل فكرا عقائديا من السيطرة على السودان مرة أخرى”، وطمأنها بأن مبادئ الثورة التي أطاحت بنظام عمر البشير ستظل حاضرة.