اللحظة اليوم باتت مواتية ليقرّ هذا اليسار بأن ساعة الثورة على نفسه فكريا هي الأسلم وهي الأجدى بالطرح للنقاش الموسّع والمعمّق، إن كانت هذه المدرسة السياسية تريد فعلا النهوض والاستقواء على علاّتها لتعود مستقبلا إلى المشهد.
انتهت حرب الرفاق في تونس، مُفضية إلى خروج أحزاب اليسار من الباب الصغير في الاستحقاقات الانتخابية التشريعية والرئاسية بيد فارغة وأخرى لا شيء فيها، ومضيفة إلى رصيد هذا التيار الفكري المتجذر في تاريخ تونس المعاصر أصفارا جديدة تعكس واقع تدني شعبيته، وتراجع حجمه السياسي أو حتى الفكري داخل النسيج المجتمعي التونسي.
حُسمت الأمور، وتشكّلت في تونس ما بعد شهر أكتوبر 2019 ملامح خارطة سياسية جديدة لا مكان فيها لأحزاب اليسار، وعلى رأسها الجبهة الشعبية التي مثّلت رأس حربة شرسة تقود المعارضة في البرلمان المنتهية ولايته، بعدما انشطرت إلى نصفين بسبب تراكم أمراض الزعامة واستفحال علّة الحقد التاريخي المتواصل بين أهم أطرافها، حتى قبل أن تدخل امتحان عرض شعبيتها وقيسها في ميزان الإرادة والخيارات الشعبية.
انتهت مرحلة الانتخابات، نجح فيها من نجح وسقط فيها من سقط سقوطا مدويا، لا يمكن تفاديه بسهولة، فأمر اندماج أحزاب اليسار داخل المجتمع التونسي كانت صعبة وشاقة قبل الثورة وبعدها، ليتعقّد الأمر أكثر، ولتصبح عملية التلاحم مع الشعب الآن أكثر صعوبة، في ظل تواصل تعنّت قادتها الّذين تركوا البحث في أسباب فشلها وهرولوا مجددا إلى النبش في هنات غيرها من الأحزاب والمرجعيات الفكرية والسياسية.
كان أشد المنبهرين والمؤدلجين بثقافة اليسار التونسي وأدبياته، ينتظرون سويعات فقط بعد إعلان نتائج الانتخابات أن تعلن القيادة اليسارية، التي تزعّمت هذا الطرح الفكري لأكثر من أربعة أو خمسة عقود، فشلها وتنحيها جانبا لتفسح المجال لطاقات شابة قادرة على الخلق والإبداع فكريا وسياسيا ومفاهميا، إلا أن العكس هو الذي حصل تماما.
على خلاف وصية المعارض السياسي شكري بلعيد، أحد مؤسسي الجبهة الشعبية الذي اغتيل إبان فترة حكم “الترويكا” التي قادتها النهضة بين 2011 و2013، والتي دعا فيها إلى توحيد الصفوف لتأسيس ما منى به نفسه بما يسميه الحزب اليساري الكبير، أخذت أهم قيادات اليسار التونسي تتناطح وتتسابق وتتسابب للتملّص من مسؤولية الفشل الذريع في الانتخابات.
حمة الهمامي زعيم حزب العمال والناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية، أخذ يحمّل المسؤولية لرفيقه منجي الرحوي الذي انشق وحزبه عن الجبهة، وأسّس حزبا مشابها تحت تسمية “حزب الجبهة الشعبية”، فيما ذهب الأخير، إلى التمترس وراء تصوراته، طارحا مرة أخرى خطابه المحمّل لمسؤولية الفشل لحمّة وللقيادة المتهرّمة التي غزاها الشيب، والتي يقول عنها إنها قضت على كل أحلام الشباب اليساري الثائر التائق للقيادة ولتصدر المشهد السياسي.
إن معظلة اليسار التونسي، كغيره من التشكيلات اليسارية العربية، تكمن في كونه ظل يقدّم نفسه منذ عقود لشعبه طروحات اجتماعية ثائرة على السائد بل على كل شيء، لكن يبدو أن اللحظة اليوم باتت مواتية ليقرّ هذا اليسار بأن ساعة الثورة على نفسه فكريا هي الأسلم وهي الأجدى بالطرح للنقاش الموسّع والمعمّق، إن كانت هذه المدرسة السياسية تريد فعلا النهوض والاستقواء على علاّتها لتعود مستقبلا إلى المشهد.
باستثناء المعارضة والنزول إلى الشارع للتظاهر والاحتجاج، لم يُبدع اليسار التونسي سوى في إنتاج واجترار شعارات سياسية انتهت صلوحيتها، دون تمكّنه من القيام بمراجعات أدبية تخلق أنماطا وأفكارا وبرامج جديدة تكون أكثر مرونة وأناقة وتقدما ومواكبة واتساقا مع العصر.
إن التونسي البسيط المتخبّط في أزماته الاقتصادية الحادة، لم يعد حملا للنبش في المراجع ويدقّق فيها بحثا عن مقاصد مصطلحات الماركسية ونظرياتها، فكل ما يريده هو خطاب قريب منه يشعره بوجوده ويجعله يطمئن لعدم غربتها في بلده وهو ما حصل فعلا مؤخرا مع صعود ظاهرة قيس سعيّد التي خالجت مشاعر الناس حتى وإن كانت مفتقدة إلى مشروع سياسي معيّن ومضبوط الملامح.
يقول المفكّر والأديب التونسي الراحل، محمود المسعدي وهو المتشبّع بفكر التمرّد السارتري (جون بول سارتر) “لقد وجدت في علّتي ما لم أجده في صحّتي”، لكن أبرز قادة اليسار الذين يحفظون هذه المقولة عن ظهر قلب، لا ينفكون عن التبرّم عن هذه الحكمة، ففي السابق كانوا يلجؤون لدى خسارة أي معركة سياسية أو انتخابية، للإسهاب في خطاب المظلومية برفع شعارات من قبيل “نحن لا نمتلك أموالا ضخمة كالإسلاميين أو أحزاب الدولة العميقة لنفوز في الانتخابات”، لكن بعد درس الانتخابات الأخيرة ما عسى هذه الأحزاب اليوم أن تقدم لقواعدها من مسكّنات؟
إن ما خلقته الانتخابات الأخيرة، سواء تعلّق الأمر بالتشريعية والرئاسية من مزاج شعبي اختار الجديد وقطع بشكل شبه كلي مع المنظومة أو ما يعرف بـ”السيستام”، لم يترك لأحزاب اليسار اليوم أي فرصة أو وسيلة للتعلل لإخماد غضب الأنصار والهروب إلى الأمام دون النظر بعمق في شكل المراجعات الحقيقية، التي يمكن ضخها على النفس الحزبي اليساري قبل فوات الأوان.
وسام حمدي
صحافي تونسي