نحن في أشد الحاجة إلى الفلسفة اليوم، على العكس مما يقوله أنصار العلم بموتها وعدم ضرورتها، لكن الحاجة إلى الفلسفة ليست بمعزل عن الاهتمام بالعلوم والآداب، وفتح آفاق التفلسف على كل المجالات والفئات، فالفلسفة قد تنقذ بلدا ممزقا مثل العراق من الحروب وغيرها. وفي هذا الإطار كان الملتقى الفلسفي في كربلاء تحت شعار “الفلسفة من أجل التغيير”.
سعى مؤتمر حول الفلسفة أقيم في مدينة كربلاء بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة والذي شهد عشر محاضرات، إلى ترسيخ مفهوم جديد للفلسفة، مفاده أن الفلسفة ليست حضور فلاسفة، وأن الأسباب التي أدت إلى تراجع الوعي والثقافة وزيادة التعصب مردها غياب الفعل الفلسفي عن الحل وابتعاد الفلسفة عن الحياة اليومية رغم أنها موجودة في كل المفاصل.
ورغم أن المؤتمر عدّ ناجحا لكونه عقد في وقت أحوج ما يكون فيه الإنسان إلى متغيّرات حثيثة ومهمة تنقله من واقعٍ إلى واقع آخر، وهو ما جعل المؤتمر يتخذ شعار “الفلسفة من أجل التغيير” سعيا لانطلاق أعماله. إلا أن هناك من صرح بحضور الفلسفة في المؤتمر مع غياب الفلاسفة، وأن الواقع العراقي بكل متغيراته الكبرى، لم ينتج فيلسوفا واحدا لتغيير الواقع العراقي الذي يحتاج إلى أكثر من فيلسوف.
بحوث واختلاف
المؤتمر أقامه الملتقى الفلسفي في مدينة كربلاء الذي يعدّ الأول من نوعه في العراق الذي يقدم أماسي تخصصية في الفلسفة وفكرها وتطبيقاتها. وهو ما أكده رئيس الملتقى ورئيس المؤتمر الدكتور سليم الجوهر حيث قال “إن الملتقى يهدف إلى لفت النظر إلى أهمية الفلسفة في الواقع الحالي”. معتبرا أن الفلسفة تعني كيفية إيجاد الحلول لمشاكل الأمس، ولذا علينا مراجعة أنفسنا من خلال الفلسفة والتشاور وأن نثير الوعي ونستمع جميعا إلى حبّ العراق.
المحاضرون جميعهم معنيون بالفلسفة كاختصاص أو كعمل أكاديمي وديني حوزوي لكن ما أقرّه الحاضرون هو غياب الفلاسفة الذين يمكن لهم الإشارة إلى المشاكل بشكل دقيق لإيجاد الحلول. وهو الأمر الذي دافع عنه الدكتور الجوهر بقوله “إن العراق لم ينتج فيلسوفا بالمعنى الكلاسيكي نعم، ولكن بالمعنى العام كما تريدها الفلسفة هي أن كل مبدع وصاحب فكر هو فيلسوف”.
مبينا أن الملتقى يحاول أن يقول إن الفلسفة مكانها الجميع وليس فقط الكتب أو المؤتمرات ونحاول نقلها من تلك الأماكن الضيقة إلى مكانها الأوسع فمبتغانا هو إنشاء فكر عامل وحيّ وليس الجلوس للتنظير.
ولفت الجوهر إلى أن المؤتمر شهد إلقاء 10 بحوث حول مختلف القضايا الفلسفية منها بحث “الفلسفة بين توجهات النخبة وتطلعات المجتمع” للدكتور إبراهيم العاتي وبحث “الفلسفة وأثرها في تأصيل ثقافة الاختلاف – السيد كمال الحيدري أنموذجا” للدكتور عقيل عبدالحسين، فضلا عن بحث للدكتور جبار خماط حمل عنوان “الفنان الفيلسوف والعيادة المسرحية” وبحث للشيخ عبدالكريم صالح بعنوان “الحدود المتنازع عليها بين الفلسفة والدين والعلم” أما السيد رضا الغرابي فقد شارك ببحث “أهداف النص ونمط الفعل التأويلي” والشيخ قيصر التميمي شارك ببحث “فلسفة الحياة بين الإنسان وموروثه الديني”.
في حين قدم الدكتور علي طارق بحثه “أزمة التربية والتعليم: الفينومينولوجيا الظاهراتيه كعلاج” وكان بحث “اللغة والعرفان: توصيف أوّلي للغة الروح وهي في حضرة الوجود” عنوان مساهمة علي حسين يوسف، وبحث “الاستشراق في فكر إدوارد سعيد، قراءة في منهجية الخطاب” للدكتور لطيف القصاب. أما الدكتور عدنان المسعودي فقد شارك ببحث “أثر الفكر السرياني في الكوفة”.
البحوث التي قدمت كانت متنوعة وعدها البعض فاتحة خير تحمل تجربة رصينة في توسيع ثقافة الفلسفة وتلقّيها، فيما عدّها البعض مواضيع لا تساهم في التأثير بما أريد لها ضمن شعارها من تغيير، وذلك من وجهة نظر بعض المشاركين. وإن البحوث لم يتم توحيدها في محاور المؤتمر رغم الاعتراف بأن الملتقى كان خطوة جريئة.
يقول الدكتور عقيل عبدالحسين عضو مجلس النواب العراقي رئيس مركز الإبداع الفكري للدراسات التخصصية “إن العراق يعاني من شح الفلاسفة في الزمن العربي وما زالت الحاجة إلى التمرحل في بيئة فكرية لفتح آفاق النقد لمشاكسة الواقع”.
مضيفا أن هناك مشاكل، خاصة في ما يتعلق بالنص الديني، تحتاج إلى إنشاء بيئة معرفية جديدة تفتح الملفات للحديث من أجل التحاور في المسكوت عنه ونبش المطمور ونقد المتمترس وفحص التراث بطريقة مشاكسة ومغايرة.
استخدام السكين
لكن الدكتور علي طارق، عميد كلية طب الأسنان بجامعة كربلاء وعضو جمعيات وملتقيات فلسفية عالمية، يرى أن المشكلة لا تكمن في غياب الفلاسفة لأنه لا يجوز ربط الفلسفة بالفلاسفة مثلما نربط رجال الدين بالدين ورجال العلم بالعلم.
مضيفا أن الفلاسفة المؤسسين ليسوا من أصحاب الاختصاص فمنهم الرياضي وعالم الكيمياء والفيزياء والطبيب وهو ما يعني إن الفلسفة ليست حكرا على اختصاص محدّد. بل يذهب طارق إلى أبعد من ذلك حين يقول إن إدخال الفلسفة بالأكاديميات هو قتل الفلسفة. ودعا إلى إلغاء جميع أقسام الفلسفة في العراق وتحويل الفلاسفة إلى داخل الكليات الأخرى. مبينا أن حصر الفيلسوف في قسم محدّد سيكون مثلما قال هايدغر الذي مثله كشخص يحدّ السكين ولا يستخدمها.
وقال إن كل فيلسوف الآن لديه سكين حاد، لكنه لا يتمكن من النقاش لأن لديه عقلا صارما لا ينفع به شيئا. مبينا أننا نحتاج من هذا العقل الصارم أن ينفتح على جميع الاختصاصات في الفيزياء والكيمياء وأن يكون لدينا فيلسوف مهندس وفيلسوف طبيب وفيلسوف أديب وهكذا لأن الفلسفة تسبق التخصص وأنها الكل الذي يوحّد الأجزاء.
يقول الباحث في فلسفة الأدب وعضو الهيئة التحضيرية للمؤتمر علي حسين، إن وجود ملاحظات حول الملتقى أمر عادي لأنه الأول من نوعه وستليه مؤتمرات أخرى مبينا أن المؤتمر بني على مسعى كيف نحوّل الفلسفة إلى أداة للتغيير لذا كانت البحوث تناوش الفكرة عن قرب أو عن بعد بحسب طبيعة الباحث.
وكان المؤتمر قد خرج بعدة توصيات أهمها حث الجهود على اعتماد المؤتمر تقليدا سنويا، والعمل على إصدار دورية فلسفية تكون حاضنة للجهود الفكرية في حقل الفكر الفلسفي والنقدي. وكذلك دعوة المعنيين بالشأن الفلسفي إلى الالتفاف حول الملتقى والمشاركة في أنشطته، لكونه يمثل نواة الجهد الفلسفي الأول.