17 ديسمبر كان ذكرى اندلاع الثورة التونسية. ففي مثل هذا اليوم من 2010، أحرق شاب من ولاية سيدي بوزيد الفقيرة نفسه ردّاً على مظلمة تعرّض لها، فأشعل موجة احتجاجات تقاطعت مع مجموعة عوامل معقّدة لتطيح النظام الحاكم.
ليس أفضل من تأكيد تعثّر الثورة مما حصل في سيدي بوزيد بمناسبة المهرجان السنوي في الأسبوع الماضي احتفاء بالذكرى: لم يدُم المهرجان أكثر من بضع دقائق غادر بعدها الوفد الرسمي بسبب الاحتجاجات التي أحاطته رافعةً مطالب مختلفة. فالواقع أن هذه الثورة أنتجت رصيداً احتجاجياً ضخماً، لكنها لم تنجح في إنتاج حلول عملية للمشكلات المطروحة، فظلّ البلد في احتجاج دائم وحلول منقوصة، ولا شيء يؤكد أنّه وضع سيتغير في المستقبل القريب.
الطبقة السياسية التي أدارت شؤون الثورة منذ انتخابات 2011، استفادت استفادة جليلة منها لكنها لم تقدّم مكاسب حقيقية للثوار، وحرية التعبير والعمل السياسي مكسب مهم بلا شك، لكنه مفيد للسياسيين والمثقفين وقد لا يراه بالصورة ذاتها الجائعون والبائسون والعاطلون من العمل. والحكومة الحالية برئاسة يوسف الشاهد أفضل الحكومات التي عرفتها تونس منذ الثورة، لكنها استلمت الحكم والبلاد على حافة الإفلاس، فلم تجد أمامها هوامش للمناورة سوى تسليم الاقتصاد إلى صندوق النقد الدولي، وهكذا وصل الوضع إلى مفارقة غريبة: فالثورة التي انطلقت من منطلقات اجتماعية أساسا أصبحت تدار بوصفات أعتى مؤسسات الليبرالية المعولمة. والموازنة المالية للسنة القادمة (2018) تعد بوضع سيزداد سوءاً، لأنها ستنهك الطبقات الوسطى والمؤسسات الاقتصادية بجملة ضرائب وزيادات في الأسعار غير مسبوقة، حتى أن النقابة القوية الممثلة لرجال الأعمال، أصبحت أكثر معارضة للحكومة من شبان المناطق المحرومة.
وتزامنت ذكرى الثورة مع حدثين دلالتهما بالغة. تمثل الأول في الطريقة التي اعتمدها تحالف الحزبين الحاكمين، «نداء تونس» و «النهضة»، لضمان التصويت على الموازنة المالية للسنة القادمة. فقد تحالفا مع حزب ثالث رئيسه خاضع للتحقيق القضائي وممنوع من مغادرة البلاد، فيما تستمد الحكومة شعبيتها من الحرب التي أعلنتها ضدّ الفساد وطالت شخصيات نافذة وإن ظلّت، حتى الآن، بعيدة من الدائرة المضيّقة للسياسيين. يؤكد هذا الحدث العزلة التي أصبح يعانيها تحالف الحزبين الحاكمين بعدما قرّر العديد من الأحزاب الصغيرة فكّ الائتلاف معه. كما يؤكد الهروبَ إلى الأمام الذي يرهن الحكومة لرغبات الحزبين أكثر من الالتزام ببرامجها وتجانس سياساتها. ومع أن رئيس الحكومة يحظى بقسط وافر من الشعبية، فيما النظام السياسي يجعله محور الحياة السياسية، فإنه عملياً غير قادر على تحدّي النظام «المشيخي» الذي يجعل القرارات الأخيرة بيد الزعيمين التاريخيين للحزبين الحاكمين.
الحدث الثاني هو انهزام تحالف الحزبين في الانتخابات الاشتراعية الجزئية بدائرة ألمانيا، وفوز مقرّب من الدكتور منصف المرزوقي معروف بتوجهاته الراديكالية ضدّ النظام، والأدهى نسبة المقترعين التي كانت في حدود 5 في المئة، وسيصبح هذا المرشح نائباً للشعب بحصوله على 284 صوتاً، مقابل فشل الحزبين الحاكمين المتحالفين في الحصول على أكثر من ذلك!
يتساءل كثيرون: ألا يمكن أن تشهد الانتخابات البلدية والمحلية المقرّر إجراؤها يوم 6 أيار (مايو) المقبل مصيراً كهذا، إذ يمكن أن تمتنع الأغلبية عن التصويت احتجاجاً على تدهور أوضاعها المعيشية، بما يفسح المجال للمترشحين (من خارج المنظومة) لاكتساح مواقع الحكم المحلّي. وفي هذه الحالة، فأقلّ ما يقال أنّ البلاد ستصبح غير قابلة للحكم، بين سلطة مركزية قائمة على تحالف فقد قوته، وسلطات محلية تمثل الاحتجاج والتمرّد؟
لا شك في أن الدائرة الانتخابية في ألمانيا لا يمكن أن تمثل مختبراً دقيقاً لما سيحصل في داخل البلاد، لكن الحقيقة أيضاً أنّ تصويت المهاجرين هناك كان في الانتخابين السابقين مطابقاً للتوجّه العام للمقترعين: فقد انتصرت «النهضة» فيها في انتخابات 2011 قبل أن تنتصر في الانتخابات العامة، ثم انتصر فيها «النداء» سنة 2014 قبل أن ينتصر في الانتخابات العامة. وإذا اعتبرنا فشل الأحزاب الأخرى في الاستفادة من انهيار قوة تحالف «النداء» و «النهضة»، بما فيها «الجبهة الشعبية» الممثلة لليسار، فمن المؤكد اليوم أن المرزوقي وأنصاره أصبحوا يمثلون المعارضة، وأنه استحوذ على الجزء الأكبر من القاعدة النهضوية، مقابل تحالف قيادات «النهضة» مع «نداء تونس» تحالفاً موقتاً إلى حين تتغير الأوضاع.
سيكون حزب «النهضة» أكبر المستفيدين من هذا الوضع: فحزب «نداء تونس» مضطر أكثر من أي وقت مضى إلى دعم التحالف معه بسبب تراجع شعبيته وتقلّص عدد نوابه في البرلمان نتيجة الانقسامات والخصومات في صفوفه، لكن إذا استطاع المرزوقي مستقبلاً أن يعود بقوة إلى الواجهة السياسية، فإنه سيضطر أيضاً للتحالف مع «النهضة» لأن قاعدته الانتخابية قاعدة نهضوية أساساً، ولأنه لا يملك حزباً حقيقياً يستطيع بواسطته أن يخوض الانتخابات التشريعية ويحكم البلاد. كان يمكن لرئيس الجمهورية أن يناور لتأجيل انتخابات أيار، كما حاول الكثيرون إقناعه بذلك، لكنه فاجأ الكثيرين بإصدار الأمر المنظم لتلك الانتخابات، بما يبدو حالياً حسماً نهائياً لموعدها. ربما أراد هذا السياسي المحنك أن يوجه رسالة قوية للحزبين المتحالفين وللأحزاب الأخرى المنسحبة من الائتلاف، مفادها أن عليها أن تراجع حساباتها أو أنها ستجد نفسها في أسوأ الأوضاع. لكن بالنسبة لعموم الناخبين، قد تفهم الرسالة بطريقة أخرى: إما القبول بالتحالف القائم بين «النداء» و «النهضة» أو العود مجدّداً إلى فترة تشبه حكم «الترويكا» سابقاً، بما تضمنته من مصائب. لا أحد يستطيع أن يتنبأ اليوم بردة فعل جموع الناخبين، هل ترضى بالسيّئ تحسباً من الأسوأ أم تمضي إلى آخر التحدّي فتختار مقاطعة الانتخابات وقلب الطاولة على منظومة حكم فشلت في تحقيق مطالبها وستزيدها بؤساً بالإجراءات الاقتصادية المقررة للسنة القادمة. وفي حال اتجاه عموم الناخبين إلى الموقف الثاني، فلا مناص حينئذ من سقوط حكومة الشاهد التي ستدفع ثمن وضع كانت هي أيضاً من ضحاياه، إذ لم تمارس سلطتها كاملة في ظلّ الضغوطات الحزبية والاقتصادية التي ظلت ترزح تحتها.