بطل قصة علي السباعي استيقظ من منامه وهو يصرخ بنهاية دولة إسرائيل مستقبلا، وكأنها الفكرة التي استحوذت على عقله الباطني فأبت أن تفارقه.
قدم القاص العراقي علي السباعي في "بنات الخائبات" نموذجا قصصيا مليئا بالصور الدلالية، التي تعكس في مضمونها صراعات وعذابات وتضحية شخوصها، حتى أن الناقدة والأديبة الأردنية سناء الشعلان قالت عن هذه المجموعة: "علي السباعي في هذه المجموعة القصصية ينحاز علانية إلى الإنسانية في كل ملامح تجربتها، ولذلك فهو ينحاز إلى الإنسان الذي يعايشه في حياته اليومية، ويرصد مفردات حاجاته ورغباته ومعاناته وانكساراته وخيبات أمله، كما يتوقف مليا عند فجيعته المكرورة في تفاصيل سيرته اليومية، وهي فجيعة تشكل في الغالب حياته وسلوكه وردود أفعاله وأحاسيسه ومشاعره، كما تشكل بكل صدق صراعه مع الحرمان، وانهزامه أمام معطيات حياته."
يعكس هذا العمل الأدبي قصتين قصيرتين، كما جاء ذلك علنا على الغلاف الخارجي، والذي لا يختزل مضمون النص القصصي الذي حمل دلالات فعلية للصراع الإنساني الذي لا يخلو من مؤشرات الترميز والتكثيف إجمالا.
جاءت القصة الأولى بضمير المتكلم تحت عنوان "فرائس بثياب الفرح"، حيث نقف أمام شخصيات عديدة وظفها السباعي لتكشف خباياه السردية عندما يختلط الواقع بالخيال.
أثناء قراءة هذه القصة نقع على نموذج شخصية البطل المنكسر الذي توبخه أمه باستمرار قائلة: "إلى متى تبقى الصخرة جاثمة عليك؟" (ص 8) وكأنها تصفع إنسانيته التي تظل خاضعة للظلم والقهر والهزيمة التي نشهد معالمها في وطننا العربي اليوم للأسف الشديد.
يواصل بدوره سرد حلمه الذي يأبى أن يفارق مخيلته عن رؤيته لرأس الحسين المدمى، محمولا فوق رمح طويل، وكأن التأويل سيحدث في نهاية هذه القصة كما حدث في رؤيا سيدنا يوسف عليه السلام وهو صبي برهانا على نبوته، التي سيحملها دون أسباط النبي يعقوب عليه السلام، كما جاء على لسان السارد:
".. كنت في عالم الرؤيا صبيا مع زملائي في المدرسة المركزية الابتدائية.. دخل الفارس في ساحة العلم، صرنا نحن التلاميذ الصغار نركض وراءه متلقفين قطرات دم الحسين التي كانت على شكل حبات رمان ريانة نضرة..." (ص 11).
استيقظ البطل من منامه وهو يصرخ بنهاية دولة إسرائيل مستقبلا، وكأنها الفكرة التي استحوذت على عقله الباطني فأبت أن تفارقه حتى تتحقق كعلامة لنبوءة رؤيته:
".. سمعت أمي ذلك فعلقت بحرقة: أتبقى الصخرة جاثمة عليك حتى عام 2018. الله أكبر" (ص 11).
يعود ويحكي لنا السارد عن حكاية تسمية بلدته باسم الناصرية، والتي حملت اسمها تلك العذراء – ناصرية - التي لم تسلم من خبث شخصية عتودة الذي يعتبر شخصية محورية في هذه القصة الشيقة.
تسيطر فكرة الجنس على عتودة وكأنه العنصر الوحيد الذي يمثل أساس حياته، فتدفعه شهوانيته ليفكر في فض غشاء العذارى من النساء، وكأنه دكتاتور يفرض سيطرته على شعبه الضعيف، وعلى هذا الأخير الرضوخ والانكسار في صمت:
"انفرطت الفتيات الجرانيوليتات لأمره متفرقات كالأحجار الثمينة التي تبرق في خواتم وأساور يديه، أنفرطن بصمت مثل الدموع..." (ص 14).
تتحقق رؤية البطل في نهاية المطاف حيث يقع ضحية تحت رحمة الطاغية عتودة، الذي حاول عبثا أن ينال من بكارة ناصرية لكنه فشل في ذلك، كما نستشف ذلك في المشهد القصصي الموالي:
"شع من عينيه الخبيثتين المضببتين بدم ثلجي وميض مكر ومكيدة، رفع وسطى يده اليمنى وحركها حركة ماجنة، أنشغلت انظر إليها، هوى سيفه على رقبتي، لحظة فصل سيفه رأسي عن رقبتي صافحت عيناي ابتسامة معلمتي التي قصصت عليها حلمي برأس الحسين..." (ص 26).
تحمل القصة الثانية لهذه المجموعة نفس تيمة الانكسار والخضوع بنبرة ضمير المتكلم أيضا، وقد جاءت تحت عنوان "سيوف خشبية"، أين تهيمن الشهوة على مشاعر البطل هو الآخر، الذي يصف نفسه بسيئ السمعة وكل ما يريده هو مضاجعة تلك الداعرة عارية، كما جاء على لسان السارد كالآتي:
"تناوشت سيفي، امتشقته بيدي، راحت يدي تمسده آليا، تصقله، تذهب وتجيء عليه، تجلوه، تصلبه، مثلما افعل دوما ساعات القيلولة امسد ظهر قطتها تتمطى القطة ويطول ظهرها، اختلست نظرة مواربة الى سيفي، همست لها بصوت مسموع مغموس بالنشوة والشهوة." (ص 32).
تستسلم المرأة في هذه القصة بسهولة لنزوات ابليس – الشخصية الرئيسية - فتمنحه فرصة اكتشاف خبايا جسدها الفاتنة، فهي تحمل دلالات متناقضة لشخصية ناصرية المتمردة في القصة السابقة، لكنها لا تخلو من الخبث والسخرية من جلادها في العموم:
"رمشت بسرعة، نظرت في وجهي، كان في نظراتها صوت اعرفه جيدا، غامت عيناها بأسف ساخن بكر، سكتت لحظات ثم قالت بابتسامة متكلفة ارتسمت على شفتيها عاكسة احتقارها لي:
- حبك سبب عهري." (ص 35).
يرفض البطل سخرية تلك العاهرة منه، وهذا يجعلها تدفع ضريبة مشاعرها القاسية اتجاهه في نهاية القصة، كما جاء ذلك في المشهد القصصي الموالي:
"نحرتها. أجل! نحرتها، وكنست احتجاج شفتيها المزمومتين بحركة متقنة من سيفي تلقفتها رقبتها فكأنما كان سيفي يعانقها لحظة نحرها..." (ص 46).
تستعصي القصتان على القارئ العادي لكثرة وقائعها الإيحائية والرمزية، والتي تعكس صورا استبدادية طالت العراق ومدنه بشكل غير مباشر، فلم يسلم أهلها من سياسة حكامه القمعية.
يتستر القاص علي السباعي عموما ببراعة وذكاء خلف شخصياته الورقية في "بنات الخائبات"، ليمرر آراءه حول حقيقة الوجع الإنساني وصمته أمام بطش الحاكم، الذي يستدرج بكل وقاحة وعهر ضحاياه خطوة تلوى الأخرى نحو الموت بعد تحقيق أهدافه المنشودة.
كاتب وناقد جزائري