لعل الحدث الأبرز في الحياة السياسية التونسية هذه الأيام هو تكليف السيد يوسف الشاهد بتشكيل حكومة وحدة وطنية، وهي حكومة كان قد دعا إليها رئيس الجمهورية السيد باجي قائد السبسي منهيا بذلك ولاية رئيس الوزراء السابق السيد الحبيب الصيد. وقد انتهى السيد يوسف الشاهد من تشكيل حكومته وعرض أسماء وزرائه وكتاب دولته على أنظار رئيس قبل أن يتوجه إلى البرلمان لنيل ثقة نواب الشعب.
حسب الدستور التونسي، يمكن لمجلس نواب الشعب أن يلتئم أثناء عطلته في دورة استثنائية بطلب من رئيس الجمهورية أو من رئيس الحكومة أو من ثلث أعضائه للنظر في جدول أعمال محدد حسب ما ينص عليه الفصل 57 ، عندها يدعو رئيس مجلس النواب مكتب المجلس للاجتماع في غضون يومين من تلقيه الملف المتضمن لطلب عقد جلسة للتصويت على منح الثقة للحكومة أو لعضو منها، ويتولى المكتب في اجتماعه ذاك تحديد موعد الجلسة العامة في أجل أسبوع من اجتماع المكتب. وسنحاول في هذا المقال أن نقف عند أهم دلالات التركيبة الحكومية المقترحة من جهة ما تمثله من ربح أو خسارة للحزبين المشكلين للحكومة التوافقية السابقة وكذلك لمؤسسة رئاسة الجمهورية التي أصبحت فاعلا أساسيا في المشهد السياسي رغم أن الدستور قد حدّ كثيرا من صلاحيات رئيس الدولة وذلك لتكريس النظام البرلماني المعدّل والابتعاد عن مخاطر النظام الرئاسوي.
ماذا ربح نداء تونس؟
بالنسبة إلى الحزب الفائز في الانتخابات البرلمانية الفارطة، فإنّه لا يمكننا الحديث عن جهة تمثيلية واحدة ، إذ تتوزع مراكز القرار فيه بين الإدارة التنفيذية بقيادة السيد حافظ قائد السبسي نجل رئيس الجمهورية والمرشح لخلافته حسب الكثير من المخاوف داخل الحزب وخارجه، وبين الكتلة النيابية بقيادة التجمعي السيد سفيان طوبال. وكما كان منتظرا فقد أبدت الإدارة التنفيذية –في بيان لها-عن مساندتها المطلقة لاختيارات السيد يوسف الشاهد ودعمها لفريقه الحكومي، أما الكتلة النيابية فقد تسربت أخبار متطابقة تفيد عدم رضاها عن التركيبة الحكومية التي رأت فيها إقصاء لـ"مناضليها" وترضية لبعض الوجوه غير المنتمية لنداء تونس والتي كانت في أغلبها من جماعة ما سُمّي ب"التصويت المفيد" أو جماعة الجبهة الرئاسية.
رغم أن الدستور التونسي يفرض على رئيس الجمهورية أن يستقيل من حزبه ضمانا لحيادية مؤسسة الرئاسة ووقوفها على مسافة واحدة من مختلف الفاعلين السياسيين، فإنه لا أحد يستطيع أن ينكر أن السيد الباجي قائد السبسي قد بقي-من وراء الكواليس- هو صاحب السلطة الأولى داخل نداء تونس. ولعلّ أكبر دليل على ذلك أنّ السيد قائد السبسي قد اختار رئيس الحكومة المكلف دون أية مشاورات حقيقية داخل الحزب الفائز في الانتخابات الفارطة أو داخل كتلته النيابية. ولو شئنا استعمال مصطلح راسخ في التراث الكنسي-الإمبراطوري لقلنا إنّ نداء تونس هو في هذا الواقع الذي فرضته الهيمنة المتزايدة لمؤسسة الرئاسة مجرد "أول بين متساوين" Primus inter pares، فليس هو من يقود عملية التفاوض وليس هو من يفرض مداخلها ولا مخرجاتها، بل أصبح هذا الدور من مشمولات رئاسة الجمهورية والشخصيات المحسوبة عليها قانونيا (مثل المستشار السياسي للرئيس السيد نور الدين بن تيشه أو مدير ديوان الرئيس السيد محمد سليم العزابي) أو الشخصيات المحسوبة على الرئيس من جهة النسب (وأساسا نجله حافظ قائد السبسي). وهو ما يعني أنّ النداء قد أصبح مجرد أداة من أدوات التفاوض التي يستعملها الرئيس وليس له أية سلطة فعلية على مجريات عملية التفاوض التي يحضر فيها باعتباره معنيا بنسبة معينة من الترضيات أو الرشاوى السياسية التي يوزعها مركز السلطة الذي رجع إلى قصر قرطاج رغم كل النصوص الدستورية.
ماذا ربحت النهضة؟
رغم التمثيلية المحدودة جدا في حكومة السيد الحبيب الصيد ، فإنّ تلك الحكومة كانت التجسيد العملي لمفهوم "التوافق" الذي تبنته حركة النهضة وبنت عليه سياساتها منذ أن وصل السيد باجي قائد السبسي إلى قصر قرطاج وفوز حزبه نداء تونس بأغلبية أصوات الناخبين في الاستحقاق النيابي السابق. لقد كانت حكومة السيد الحبيب الصيد مشكلة من أربعة أحزاب وكان لحركة النهضة فيه وزيرا وحيدا رغم أنها قد صارت صاحبة الكتلة النيابية الأولى منذ الانقسام الذي عرفه نداء تونس وأدّى بأحد أبرز قيادييه السيد محسن مرزوق إلى تشكيل كتلة نيابية مستقلة ثم إلى بناء حزب جديد أسماه "مشروع تونس". وقد رحّبت الحركة بمبادرة رئيس الجمهورية الداعية إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية، وهو ترحيب لا يمكن فهمه إلا إذا ما افترضنا جدلا أن النهضة ترى في حكومة الوحدة الوطنية لحظة سياسية توسّع مفهوم التوافق وتكرسه، ولا تنظر إليها باعتبارها لحظة انقلاب على ذلك المسار الهش. ولعل ما يزيد من وجاهة هذا الافتراض هو قبول أطراف محسوبة على اليسار الاستئصالي (خاصة سمير الطيب وعبيد البريكي) بدخول حكومة تشارك فيها النهضة، وهو قبول يمكن للحركة أن تعتبره مكسبا في حد ذاته ، لأنه يعبّر عن تفتيت لكتلة "الممانعة الإيديولوجية" التي ظلت إلى وقت قريب ترفض الاعتراف بالإسلام السياسي أو التطبيع معه.
من الناحية الصورية، يمكن أن نتفهم منطق المعترضين على الحضور الباهت للحركة في حكومة التوافق أو في حكومة الوحدة الوطنية، كما يمكننا أن نجاريهم في اعتباره ضربا من الانبطاح غير المبرر، خاصة بعد الأزمة الحادة التي مر بها نداء تونس وجعلته يفقد الأغلبية النيابية. ولكنّ هذه الاحترازات "الصورية" لا قيمة لها في ظل مشهد وطني ليست الأحزاب فيه إلا واجهة قانونية لسبكات من المصالح المحلية والإقليمية والدولية، وهي شبكات تظل مرتبطة أساسا-وليس حصريا-مع ورثة النظام النوفمبري في العائلة "الدستورية" وحلفائهم في اليسار الثقافي. فحركة النهضة تمتلك أغلبية نيابية ولكنها أغلبية غير قابلة للتصريف السياسي إلا إن قبلت الحركة بأن تكون حليفا لممثلي المنظومة القديمة، بل أن تكون جزءا من حكومة لا تعكس تلك الأغلبية. ولا شكّ عندي في أنّ الجدل المتعلق بعدد المقاعد التي أُسندت لحركة النهضة لا جدل بلا معنى، إذ لا قيمة لعدد المقاعد ولا للوزارات التي أسندها قائد السبسي-عبر يوسف الشاهد- لحركة النهضة- مادامت الحركة قد خرجت من وضعية "المانح"-مانح الهبات والترضيات السياسية-كما كان الشأن زمن الترويكا- إلى وضعية "الطالب"، تلك الوضعية التي تعترف فيها حركة النهضة عمليا بأنها ليست صاحبة السلطة الفعلية في البلاد، كما تعترف بأن مركز السلطة قد عاد إلى قصر قرطاج بينما كان من المفروض أن يكون في مجلس نواب الشعب بباردو. فخسارة النهضة الحقيقية تكمن هنا بالضبط-أي في خسارتها لموضع القادر على تغيير بنية الحقل السياسي ومنطقه- ، أما باقي الخسارات فهي خسارات مشتقة وجزئية وليست أصلية أو استراتيجية.
ماذا ربح رئيس الجمهورية؟
بعد الانتخابات التشريعية السابقة وفوز نداء تونس بأغلبية المقاعد في مجلس نواب الشعب، كان من أهم الحجج التي اعتمدها أنصار الرئيس السابق منصف المرزوقي هي ضرورة منع تغوّل هذا الحزب بأن يكون الرئيس من خارجه. فنداء تونس كان سيسطر على رئاستي الوزراء والنواب، وكان وصول السيد الباجي قائد السبسي إلى قرطاج مؤذنا بتغوّل هذا الحزب الذي سيسطر هكذا على الرئاسات الثلاث. ولكنّ هذا المنطق-لأسباب كثيرة-لم يقنع الناخبين الذين صوتوا لتولي السيد قائد السبسي رئاسة الجمهورية. وقد أبدى رئيس الجمهورية في أكثر من مناسبة ميله إلى النظام الرئاسي معتبرا أنّ النظام البرلماني المعدل هو من أسباب الأزمة السياسية.
بصرف النظر عن مدى وجاهة موقف الرئيس من النظام السياسي الذي ارتضاه التونسيون في دستورهم، يبدو أنه قد قرأ تصويت التونسيين له في الانتخابات الفارطة باعتباره تصويتا لصورة البورقيبي-المنقذ التي أقام عليها حملته الانتخابية. ويعلم المؤرخون أنّ من أهم سمات البورقيبية منذ تأسيس الجمهورية هيمنةَ ثالوث الزعيم-الحزب-الدولة، وهو ما يعني الآن-وهنا هيمنة قرطاج على جميع مراكز القرار ضدا على الدستور أو انقلابا "ليّنا" عليه. فالسيد الباجي قائد السبسي هو صاحب الدعوة للحكومة الوطنية، وهو الذي اختار رئيس الحكومة المكلف، كما أنه هو الذي وجّه المفاوضات بطريقة تشمل حلفاءه في الجبهة الرئاسية من جهة أولى، وتنفتح على أكبر قدر من الطيف السياسي والنقابي والجهوي حتى يضمن لهذه الحكومة قاعدة سياسية واجتماعية متينة قادرة على مواجهة الرفض الشعبي الذي ستواجه بها قراراتها "المؤلمة"(لأنها ستكون بالضرورة مؤلمة لعامة المواطنين وليس للمتسببين الحقيقيين في الأزمة).
لقد نجح السيد الباجي قائد السبسي -بحكم رمزيته السياسية وقدراته التواصلية من جهة أولى، وبحكم ثقة "المسؤول الكبير" من جهة ثانية- في نقل مركز السلطة من باردو والقصبة إلى قصر قرطاج، كما نجح في تثبيت تحالفه الهش مع حركة النهضة دون أن ينسى حلفاءه التقليديين من جماعة الانتخاب المفيد والجبهة الرئاسية أو أتباعه من القيادات التجمعية التي تحولّت إلى نداء تونس-على الأقل وزيران وثلاثة كتاب دولة-. ولا شك في أنّ تفسير نجاحه في الجمع بين النهضويين وأعدائهم الإيديولوجيين(في حزب المسار وفي البيروقراطية النقابية) بانتهازية الطبقة السياسية هو تفسير سطحي شعبوي ومتهافت. فالانتهازية لا يمكن أن تفسر لنا كيف يمكن لرمزين من رموز اليسار- مثل السيد سمير الطيب أو السيد عبيد البريكي- كيف يمكنهما التنازل عن جزء كبير من رأسمالهما الرمزي المتمثل أساسا في عدائهما المطلق لحركة النهضة. ولذلك علينا أن نفترض أسبابا أعمق قد يكون علينا أن نبحث عنها في إرادة "المسؤول الكبير" ، فذلك المسؤول الكبير هو الذي يستطيع أن يفرض على أي فاعل سياسي التضحية بجزء معين من رأسماله الرمزي كي لا يضحى برسماله الرمزي كله أو كي لا يُضحى به شخصيا إن استدعت مصلحة "المسؤول الكبير" ذلك.
خاتمة
مهما كان موقفنا من الشخصيات المشكلة لحكومة يوسف الشاهد، فإن هذه الحكومة ستكون حكومة أغلبية رئاسية لا حكومة توافق، وستجعل سلطة القرار أساسا في قرطاج وليس في القصبة. فالسيد رئيس الحكومة المكلّف هو في النهاية مجرد أداة تنفيذ ولا يُمثل خيارا حزبيا أو شخصية قيادية ذات وزن فيه، كما أنّ هذه الحكومة ستكرس واقع نقل مركز القرار من باردو إلى قرطاج وذلك لأن الكتلة النيابية لنداء تونس قد أصبحت -بمشيئة ساكن قرطاج- مجرد طرف مشارك في المشاورات لا الحزب المشرف عليها. وهو ما يعني أنّ الطبقة السياسية ستجد نفسها في الفترة القادمة مضطرة إلى طرح قضية تعديل النظام السياسي على الاستفتاء الشعبي، فإما أن يتوجّه إلى النظام الرئاسي-إن استمرت هيمنة قرطاج على الحياة السياسية-و إمّا أن يتوجه إلى نظام برلماني حقيقي –إن عرفت القوى السياسية المعارضة كيف تقنع التونسيين والتونسيات بمخاطر التغول التي لم يعد ينكرها إلا مكابر-.