بين جنات الغابات المتوسطية وبحيرات الحلم المتلألئة تقع طبرقة التونسية، في أقصى الشمال الغربي للبلاد التونسية غير بعيد عن الحدود الجزائرية. وترتبط مع الجزائر بمعبر حدودي متاخم للبحر هو معبر ملولة أم الطبول. وهي إلى جانب ذلك مدينة سياحية مزدهرة بالنزل والفنادق الفاخرة وبمينائها السياحي الترفيهي ومطارها الذي يربطها بمدن أوروبية عديدة ويرتادها على مدار العام سياح محليون وجزائريون وأوروبيون.
ولعل ما يميز طبرقة هو طبيعتها الخلابة التي أبدعها الخالق في مشهد استثنائي يجمع بين زرقة البحر وخضرة الغابات والجبال الشامخة المنتصبة منذ أقدم العصور والشاهدة على تاريخ عريق ضارب في القدم وهذا ما دفع البعض إلى ان يطلقوا عليها صفة «رئة تونس». كما تتميز طبرقة بمبانيها ذات السقف المثلث والتي يعلوها القرميد الأحمر على غرار كثير من بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط.
اقتصاد متنوع
ومثل أغلب مدن البلاد التونسية يتنوع النشاط الاقتصادي في طبرقة، فإلى جانب السياحة التي تعتمد في الأساس على البحر والغابات كثيفة الأشجار التي تكسو الجبال الشاهقة، وأنشطة الغوص التي تعتبر طبرقة رائدة في مجالها ووجهة عالمية لأهم الغواصين، تتوفر فيها ثروة سمكية جعلت مطاعمها تقدم أشهى الوجبات لأسماك البحر الأبيض المتوسط. كما يشتهر بحرها بكثافة الشعب المرجانية ما جعل نشاط استخراج المرجان، الذي أقيم له نصب في المدينة، يزدهر وتزدهر معه الصناعات التقليدية المتعلقة في الأساس بالحلي التي تقبل عليها الفتيات التونسيات والأجنبيات.
كما ازدهر النشاط الصناعي المرتبط بأشجار طبرقة من الفلين والصنوبر والزان والسنديان وغيرها، ففيها أهم مصنع للفلين (الخفاف) في البلاد التونسية وعدة مصانع أخرى تشغل في الأساس أبناء الجهة. كما كانت هذه الأشجار العملاقة التي تملأ جبال طبرقة ومحيطها مصدر إلهام للنحاتين على الخشب لإبداع أروع التماثيل الخشبية التي تباع في أسواق طبرقة السياحية وفي أسواق جارتها مدينة عين دراهم التي تتميز بعيون مائها العذبة التي يرتوي منها أبناء الجهة والعابرون على حد سواء.
وتزدهر الفلاحة في طبرقة باعتبار أن هذا النشاط هو الأساسي في تونس منذ أقدم العصور، فبه ازدهرت جمهورية قرطاج، وبه أصبحت تونس بعد سقوط قرطاج المزود الرئيسي للإمبراطورية الرومانية بالقمح وسائر الحبوب. فالماء متوفر بكميات كبيرة في طبرقة ومحيطها في الشمال الغربي حيث تنتشر السدود العملاقة التي تخزن مياه الأنهار التي تتأتى في الأساس من الأمطار الكثيفة التي تسجلها طبرقة وجوارها سنويا.
وتعتبر تربية المواشي من أهم الأنشطة الفلاحية في طبرقة فالأبقار والخرفان وقطعان الماعز التي تعيش في هذه الربوع متحدية الذئاب والخنازير الجبلية عادة ما تتميز بجودة لحومها بالنظر إلى نوعية الأعشاب الغابية التي تقتات منها وإلى جودة الهواء النقي في هذه البراري الساحرة. كما أن الحليب الذي يتم إنتاجه في هذه الربوع يتميز بدوره بجودة عالية باعتبار مصدره، أي الطبيعة العذراء لطبرقة ومحيطها.
محطة استشفائية
طبرقة، تلك اللوحة الاستثنائية، تشكل ملاذا للهاربين من صخب الحياة وضوضائها، فهنا تتربع أهم فنادق الاستشفاء التونسية لتحكي قصص من مروا بها واستجموا بين جنباتها وسكنوا تحت ظلال سنديانها، وسكبوا من مياهها العذبة على قلوبهم علها تشفى من وجع الحياة، ينصح الأطباء مرضاهم بقضاء أيام في تلك الربوع للراحة والاستجمام حيث لا مكان للغازات الملوثة أو لثاني أكسيد الكربون، فقط يوجد أكسجين متجدد تنتجه أشجار متنوعة اشتهر بها محيط مدينة طبرقة. كما توجد نباتات جبلية برع أهل الجهة في تقطيرها واستخراج زيوتها التي تشفي من عدد كبير من الأمراض وأصبحت الجهة بمثابة الصيدلية الثابتة التي يرتادها الباحثون عن الاستشفاء.
ومن أشهر مرتادي طبرقة ومحيطها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة الذي أقيم له تمثال وسط المدينة يجسد منفاه أيام الاستعمار الفرنسي في جزيرة جالطة التونسية غير البعيدة عن طبرقة. فقد أصيب بورقيبة أثناء حكمه بمرض صدري أرهقه واستدعى سفره إلى سويسرا وألمانيا للعلاج حيث المراكز والمنتجعات الاستشفائية الجبلية المتطورة، فقرر الزعيم إنشاء مركز شبيه في تونس ووقع الاختيار على مكان في محيط مدينة طبرقة سمي لاحقا «حمام بورقيبة» واظب الزعيم التونسي على اللجوء إليه للاستشفاء وتلقي العلاج حيث المياه المعدنية العذبة والهواء النقي للأشجار التي تحيط بالمكان من كل جانب.
وتقصد النوادي الرياضية التونسية والعربية والأوروبية المنطقة للإعداد للمواسم الرياضية في المرتفعات وبين الغابات حيث تنزل درجات الحرارة صيفا. فاجتهدت الدولة لتوفر الملاعب المعشبة والقاعات الرياضية وميادين ألعاب القوى لهذه النوادي.
فاشتهر مركز التدريب في حمام بورقيبة وكذلك مركز التدريب في عين دراهم، في أوساط النوادي الرياضية أصبح على وجه الخصوص مقصدا لهذه النوادي صيفا بسبب انخفاض درجات الحرارة، وشتاء عند توقف الدوريات المحلية طلبا للارتفاع المفيد للإعداد البدني للرياضيين وأيضا من أجل الهواء النقي الخالي من التلوث، وذلك بالرغم من نزول الثلوج بهذه الربوع في الفصل المطير ليصبح المشهد أجمل وأروع بهذا الكساء الأبيض الذي يغطي الأشجار الباسقة والبيوت القرميدية الحمراء في مشهد شبيه إلى حد كبير بالمنتجعات السويسرية الشتوية.
وأصبح مألوفا مشهد أبناء المنطقة من الفتيان والكهول وهم يعرضون على جنبات الطريق أفضل صناعاتهم التقليدية، للعابرين في تلك الربوع السلال والعسل التي اعتادوا بيعها خلال فصل الصيف وتشكل موردا لهم ولعائلاتهم خاصة لسداد فترة العودة المدرسية خلال شهر سبتمبر من كل عام. سلال ملونة مزينة صنعت بإتقان وحب وحلم كبير بغد أفضل، بأنامل أمهات ونساء تلك الربوع الخضراء وتشكل هدايا وكنوز من مروا من هنا.
تاريخ وحضارة
ومثل قرطاج وكركوان وأوتيك ومدن تونسية أخرى، فقد أسس الفينيقيون العاشقون لثلاثية البحر والجبل والغابة مدينة طبرقة التونسية منذ ما يقارب الـ800 سنة قبل ميلاد المسيح. وأطلق الفينيقيون الأوائل، الذين اختلطوا بالأمازيغ وانصهروا لاحقا في حضارة قرطاج البونية، على هذه المدينة الميناء تسمية «ثابركا» ويقال أنها تعني بالفينيقية موطن الظلال التي توفرها أشجار طبرقة الباسقة وجبالها الشاهقة التي تجعل غروب الشمس مبكرا فيها مقارنة بالمدن السهلية.
وكانت المدينة في بداية التأسيس قرية صغيرة تتوفر على ميناء للصيد البحري اشتهر بأسماكه الجيدة وجراد بحره لدى المهاجرين الفينيقيين إلى شمال افريقيا. ومنذ ذلك العهد وإلى يوم الناس هذا وطبرقة توفر هذه الأسماك البحرية اللذيذة ولم ينقطع بحارتها عن طلب الرزق في بحرها الأزرق الجميل ذي الشعب المرجانية الكثيفة.
وخضعت طبرقة للإمبراطورية الرومانية مثل أغلب مدن البلاد التونسية و «ترومنت» أي اندمجت في الحضارة الرومانية وتمتع سكانها بكامل حقوق المواطنة. وكانت معينا لا ينضب للرومان للتزود بالحبوب وسائر الخيرات الفلاحية وكذا بالأخشاب بالنظر إلى غاباتها المترامية وجبالها الشاهقة التي هي جزء يسير من سلسلة جبال الأطلس المغاربية.
ثم جاء العرب ومعهم الإسلام فاعتنقه سكانها مثل غالبية سكان البلاد وتحولت لاحقا إلى إحدى ساحات الصراعات المتوسطية بين الأتراك العثمانيين والاسبان والجنويين الذين تركوا حصنا شهيرا في جزيرة قريبة من طبرقة صارت اليوم جزءا من المدينة بعد أن تم ردم البحر وإيصال الجزيرة باليابسة. وفي الحصن الجنوي تقع منارة لإرشاد السفن العابرة للمتوسط جيئة وذهابا.
ولعبت طبرقة والمدن المجاورة لها دورا بارزا في مرحلة الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي، فقد روى التاريخ بطولات لقبائل جبال خمير في التصدي للمستعمر الفرنسي الذي احتل تونس إنطلاقا من الأراضي الجزائرية سنة 1881. وسجن الزعيم الحبيب بورقيبة أثناء فترة الكفاح ضد الاستعمار في طبرقة لينقل منها إلى منفاه في جزيرة جالطة التونسية أقصى شمال البلاد، وهناك منزل جميل بديع الهندسة غير بعيد عن طبرقة وتحديدا في منطقة فج الأطلال في مدينة عين دراهم أقام فيه الزعيم الراحل ونسبت ملكيته له، والمرجح أنه ملك الدولة التونسية باعتبار أن الرئيس بورقيبة لم يمتلك بيتا طيلة حياته.
وتشتهر طبرقة بما يسمى «الإبر» والبعض يسمي المكان الأسد الأصفر وهي صخور منحوتة تتصل بالبحر تعود إلى العصر الحجري. وما يجعلها مزارا لسياح طبرقة هو المنظر الجميل الذي يشاهد عند الوقوف بجانبها والذي جعلها تحوز على شهرة لدى أبناءها ولدى زوارها على حد سواء.
موسيقى ومهرجانات
وتعرف طبرقة أيضا بمهرجان الجاز الذي يقام صيفا على مسارحها وتأتيه فرق هامة لموسيقى الجاز من مختلف أنحاء العالم، وقد نال هذا المهرجان شهرة عالمية واسعة في السنوات الماضية. وهناك نصب أقيم في المدينة لآلة موسيقية للإشارة إلى مهرجان الجاز العالمي في طبرقة والذي خفت بريقه بعد «الثورة» لكنه يعود تدريجيا لاكتساب الألق الذي اشتهر به.
وعرفت طبرقة بمهرجانات أخرى منها المهرجان الدولي في طبرقة ومهرجان الراي المختص في موسيقى الراي الجزائرية. ولعل الاهتمام بموسيقى الراي مرده إلى قرب طبرقة من الجزائر والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التي تربط سكان طبرقة بمدن الشرق الجزائري، وأيضا لتوافد أعداد كبيرة من العائلات الجزائرية على طبرقة صيفا للراحة والاستجمام.
وبرزت في السنوات الأخيرة مهرجانات فتية بدأت تشق طريقها بنجاح وتجلب إليها الانتباه ومن المتوقع أن تصل إلى العالمية خلال السنوات المقبلة وتحوز على شهرة مهرجان الجاز. فأحدها يهتم بالسلام العالمي وإشاعة قيم العدل والمساواة بين الشعوب ويهتم بأنماط متعددة من الموسيقى من مختلف أنحاء العالم.