يقول المتنبّي: "على قلق كأنّ الرّيح تحتي..."، وكأننا بضيفنا قد اتّخذ من هذا الصدر مبدأً في كتاباته، فهو يعيش حالات قلق متعددة من أجل الكتابة التي صار يعيشها بكل انفعالاتها وارهاصاتها وتحولاتها، فقد أصدر إلى حد الآن خمسة كتب وهي: "الأزهر.. الجنرال الفارس" (نثر) و"حنبعل.. الفرار الأخير" (نثر) و"لست أرى في النساء سواك" (شعر) و"إلياذة تونس" (شعر) و"أنطالاس" (رواية)، وله عديد المخطوطات سواء منها الجاهزة للطبع أو التي بصدد الاشتغال عليها.

ضيفنا هو الشاعر والروائي الدكتور وليد السبيعي الذي حاولنا إحراجه كما ينبغي في حوار استثنائي للغاية، وبين السؤال والجواب رحلة من كلمات، نقرأ تفاصيلها في هذه المساحة:

* الدكتور وليد السبيعي من طب الأسنان إلى النثر إلى الشعر إلى الرواية.. كيف كانت الرحلة؟

ـ كانت لي ميولات أدبية منذ الصغر، إلا أن الصدفة وحدها قادتني للطب لعدم وجود شعبة للآداب بالمعهد النموذجي بالكاف، فاخترت الطب الذي لم يحل دوني ودون المطالعة والاطلاع على أمّهات الكتب وعلى مدوّنتي الشعر العربي القديم والحديث، فظلّ الشاعر والروائي يكبران داخلي على امتداد سنوات دون أن أتفطّن لهما، فكنت أحس أنني قادر على الكتابة، لكن هناك شيء لا أعرفه ظلّ يمنعني من خوض التجربة، ومعه ربما التزاماتي المهنية والعائلية، ولكن خلال فترة الحجر الصحي لسنة 2020، وأمام تغيّر نمط حياتنا، لم تُكبح جماح قلمي، بل أُطلق عنانها، فتحوّل نهم القراءة عندي إلى نهم كتابة، فكتبت وأطلعت البعض ممّتن أثق فيهم وممّن يُشهد لهم بالكتابة على ما خطّت يداي، فنصحوني بالنشر.. لم أتردّد كثيرا وأقدمت على هذه التجربة بكل ما فيها من لذة ومن تعب، وكنت في كل مرة أصدر فيها كتابا، أجد التشجيع على مزيد النشر إلى أن بلغت إصداراتي الخمسة كتب في انتظار إصدار بقية أعمالي.

* ألا ترى أن إصدار خمسة كتب في ظرف أقل من سنتين يُعتبر مجازفة كبرى خصوصا لشاعر وروائي حديث العهد بالساحة؟

ـ "من يركب البحر، لا يخاف أمواجه".. لقد كانت تجربة رائعة ولذيذة رغم تعبها وقد نالت كل كتبي جانبا هاما من الحظ، لكنني لا أعتقد أنها نالت حظها الكامل من الدعاية ومن التعريف بها، وهذا موكول للنقاد وللإعلاميين، وكذلك للشعراء وللروائيين.

* ألا ترى أن إقامتك بالكاف قد لا تخدمك إعلاميا عكس الشعراء والروائيين المقيمين بالعاصمة؟

ـ لا أعتقد ذلك، فالكاف ليست ببعيدة عن العاصمة، وقد لبّيت كل الدعوات الإذاعية والتلفزيونية النس وصلتني من العاصمة ومن الكاف أيضا، وحتى علاقاتي الجديدة فهي جدّ ممتازة، لكنني مع ذلك أطمح لمزيد الانتشار وطنيا في مرحلة أولى ثم الانتشار عربيا في مرحلة ثانية.

* هل للطبّ أثر في قصائدك؟

ـ لي قصيدة مطولة ستصدر في كتاب وعنوانها "كلّ النساء أنت"، وهي مستلهمة من الطب، علما أنها قصيدة عمودية على بحر البسيط تضم خمس مائة بيت على قافية النون، فأنا أشتغل في الشعر على المشاريع عكس أغلبية الشعراء.

* إضافة إلى "كلّ النساء أنت"، هل لديك جديد آخر؟

ـ قريبا أصدر مجموعة شعرية عن دار الجمال بعنابة (الجزائر) بعنوان "دراكولا الحب"، إضافة إلى "كلّ النساء أنت" التي سأصدرها بتونس، ومثلها "ثنايا الأولين" والتي تضم مائة معارضة لمائة شاعر عربي من امرئ القيس إلى نزار قباني ثم مجموعة شعرية بعنوان "الحضارة أنثى"، إلى جانب روايات "نارافاس" و"جينسريك" و"نرجس" وهي أعمال مازلت أشتغل عليها.

* لاحظنا أنك تعتمد في كتاباتك على أسلوب السهل الممتنع، فهل هي قناعة؟ أم عجز عن الخروج من قاموسك اللغوي؟ أم ماذا؟

ـ هي قناعة وليس عجزا، ولك في نزار قباني خير مثال، فالشعر والأدب عموما لا بدّ أن يخرجا إلى عامة الناس وأن يخاطبا الجميع بكلام مفهوم بعيد عن التكلّس والتصحّر اللغوي واستعراض العضلات المجاني، وبأسلوب سلس وبقاموس لغوي مفهوم يجنبهم العودة للمعاجم ويضمن بقاءهم داخل النص لا خارجه ويحرّك فيهم أحاسيسهم، فالشعر الحقيقي كالموسيقى تماما، يمكن التفاعل معه إذا كان سلسا ومفهوما.

* الكاف التي اشتهرت بالمسرح والموسيقى، أصبحت منذ سنوات زاخرة بالتظاهرات الشعرية والأدبية... أين كانت كل هذه الطاقات؟

ـ كما وصفوا أبا القاسم الشابي بكونه الشجرة التي حجبت الغابة، فإن المسرح والموسيقى حجبا الشعر لعقود، إلا أن إرادة الشاعر والإدارة عملت على إبراز جمال آخر كان مخفيا، وقد وجد حراك شعراء الكاف كل التجاوب من المندوبية الجهوية للشؤون الثقافية بالمكان وكذلك المكتبة الجهوية ودور الثقافة والمكتبات العمومية ومكونات المجتمع المدني.. لقد آن الأوان لنقول إن الكاف موطن للشعر أيضا، وما أرجوه هو أن تنسج بعض الولايات على منوالها، لأن للبقية مهرجانات وملتقيات شعرية متميزة.

* تحدثنا عن وليد السبيعي كشاعر، ولم نتحدث عنه كروائي، فكيف عشت تجربة روايتك "أنطالاس"؟

ـ بحكم اطلاعي على التاريخ القديم وتركيزي على التونسي منه، فقد لاحظت أن عديد الزعماء لم ينالوا حظهم، بل وفيهم من ظلّ مجهولا رغم كثرة بطولاته وانجازاته، ومن بين هؤلاء نجد القائد الفرشيشي أنطالاس الذي كان رجل حرب وسلم، وشهدت له بذلك بطولاته الكثيرة التي حققها إضافة إلى حسن تسييره لشؤون قبيلته، لذلك كان لزانا عليَّ من موقعي أن أعيد الاعتبار لهذا القائد أو أن أساهم في ذلك من خلال رواية أحسست وأنا أكنبها أنني أعيشها وأنني شاهد على العصر، وستلي هذه الرواية روايتان تاريخيتان وهما "نارافاس" و"جينسريك"، وربما روايات أخرى.

* كسف استطعت المراوحة بين النثر والشعر والرواية؟

ـ كلّما وجدت نفسي مرتاحا للكتابة في هذا الصنف أو ذاك إلا وكتبت، لكنني إذا أخذت القلم ووضعت الأوراق أمامي فأنني أنسى كل ما يدور حولي، فأعيش الكتابة انفعالا وإحساسا فأنسى حتى أبسط الواجبات تجاه نفسي، ولا تنسى أن مخزون عشرات السنين انفجر ولا يريد الكف عن مزيد الانفجار.

* كيف تقيّم الساحتين الشعرية والروائية بتونس؟

ـ ككل الساحات، فيهما الغث والسمين، فيهما الإبداع والجودة وفيهما الرداءة والاسفاف، وفيهما المتوسط ودونه، وفيهما العلاقات والولاءات وفيهما المصالح والخصومات، لكن ينقصهما النقد.. ومع ذلك أقول إن التاريخ وحده القادر على الغربلة، ولو بعد عقود.

* ختاما.. ماذا تقول؟

ـ شكرا على هذه الاستضافة، وأختم بمقطع من قصيدتي المطولة "كل النساء أنت" والذي أقول فيه:

"أرض اللغات بلا فخر.. من القدم

ذوّبتني وصهيرُ الحرف أعياني

لا تحفلي، إنهم في جهلهم سكنوا

ضادي أنا عاشق يا ذات أفناني

إنّي مُبَارٍ بك الكتاب في الأرض

بحر وقافية والشعر ميداني".