اختر لغتك

الشركات الأهلية فرصة نحو هندسة اقتصادية بديلة لإعادة تشكيل المنظومة التنموية

الشركات الأهلية فرصة نحو هندسة اقتصادية بديلة لإعادة تشكيل المنظومة التنموية

في خضم التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالعالم، تتجلى الحاجة إلى إعادة النظر في النماذج التنموية التقليدية التي كرست أنماطا من الهيمنة المالية وعمقت الفجوة بين الفاعلين الاقتصاديين لتنتج في النهاية منظومة غير متكافئة تقف عاجزة أمام متطلبات التنمية العادلة، وفي هذا السياق نظم مجمع المحاسبين بالبلاد التونسية ملتقى علميا تحت عنوان "الشركات الأهلية: آفاق التنمية المستدامة والاقتصاد الاجتماعي والتضامني ودور المحاسب في تأطير ومرافقة بعثها" تطرقت اساسا الى مفهوم الشركات الأهلية كتصور جديد يسعى إلى تجاوز منطق السوق القائم على المركزية الرأسمالية الصارمة واستبداله بمنظومة اقتصادية بديلة تعيد هندسة العلاقة بين رأس المال والعمل وتضع الفاعلين الاقتصاديين في موقع الشراكة بدلا من التقابل، غير أن هذا الطرح رغم وجاهته النظرية يستدعي تفكيك البنى التقليدية التي حكمت الاقتصاد لعقود، كما يتطلب إطارا مؤسساتيا وتشريعيا متكاملا، يضمن تحقيق الأهداف المرجوة دون أن يتحول إلى مجرد شعار نظري لا يجد امتدادا واقعيا.

مقالات ذات صلة:

ناجي الغندري: هل تكون الشركات الأهلية مفتاح الانتعاش الاقتصادي في تونس؟

ندوة وطنية سلطت الضوء على دور الشركات الأهلية في تونس وتدشن حاضنة رقمية لدعمها

يوم تحسيسي ناجح حول الشركات الأهلية بحي الخضراء 

كذا ناقش المختصون والأكاديميون والممارسون في المجال الاقتصادي والمالي التحديات والفرص التي تطرحها هذه التجربة الجديدة، وتمحورت الجلسات حول ضرورة إرساء إطار محاسبي وقانوني يواكب خصوصيات هذا النموذج الاقتصادي ويضمن حوكمة شفافة وفعالة لهذه المؤسسات الناشئة خاصة في ظل تعقيد المنظومة الجبائية والتشريعية في تونس.

كما أكد المشاركون على الدور المحوري للمحاسب في مرافقة هذه الشركات منذ مرحلة التأسيس من خلال تقديم استشارات مالية دقيقة وإعداد دراسات الجدوى وضمان الامتثال للمعايير المحاسبية والجبائية وهو ما من شأنه أن يعزز من موثوقية هذه المؤسسات ويضمن استدامتها في بيئة اقتصادية تنافسية، كما تم التطرق إلى أهمية التكوين والتوعية سواء لصناع القرار أو لأصحاب المشاريع من أجل تجاوز العراقيل الإدارية والتقنية التي قد تعيق انتشار هذا النموذج.

هذا وتعد أي محاولة لإعادة هيكلة الاقتصاد لا يمكن أن تتم بمعزل عن فهم طبيعة العلاقات التي حكمت النموذج السابق، إذ إن المنوال التنموي التقليدي تأسس على منطق احتكار وسائل الإنتاج من قبل نخب مالية قادرة على فرض معادلات السوق وفق مصالحها ما جعل الثروة متركزة في نطاق ضيق وأدى إلى تفاقم التفاوت الاقتصادي بين الجهات والفئات، وفي المقابل تسعى الشركات الأهلية إلى إعادة توزيع هذه الديناميكية من خلال إرساء نمط إنتاجي يسمح للأفراد بالمشاركة الفعلية في النشاط الاقتصادي ليس فقط بوصفهم مستهلكين أو أجراء بل بصفتهم شركاء في اتخاذ القرار الاقتصادي وهو ما يفرض إعادة تعريف مفهوم الملكية الاقتصادية بحيث لا يكون رأس المال وحده المحدد الرئيسي لقوة المؤسسة وقدرتها التنافسية بل تصبح عوامل أخرى مثل المعرفة، والابتكار، والإدارة الجماعية، والحوكمة الرشيدة، عناصر أساسية في تحديد مدى نجاح هذا النموذج.

لكن هذه الرؤية، رغم بعدها التحولي تظل مرهونة بقدرة المنظومة الاقتصادية على استيعاب هذا النموذج الجديد ضمن إطار قانوني ومالي يسمح له بالصمود في بيئة اقتصادية معقدة حيث تهيمن قوى اقتصادية تقليدية تمتلك خبرة طويلة في التحكم بمسارات السوق والسيطرة على شبكات التمويل، ومن هذا المنطلق فإن نجاح الشركات الأهلية يتطلب إرساء منظومة تشريعية مرنة تحدد بوضوح أطر الحوكمة وآليات توزيع الأرباح وأنظمة الرقابة والمساءلة بحيث لا تتحول هذه الشركات إلى كيانات هشة غير قادرة على منافسة المؤسسات التقليدية ولا تنزلق إلى دائرة الفساد أو سوء الإدارة التي أفشلت العديد من المشاريع التعاونية السابقة.

وعلى مستوى آخر، يفرض هذا النموذج تحديا جوهريا يتمثل في إعادة صياغة العلاقة بين المؤسسات الاقتصادية والدولة، إذ لا يمكن للشركات الأهلية أن تزدهر في بيئة تهيمن عليها البيروقراطية الثقيلة أو تفرض فيها وصاية إدارية تعيق استقلالية القرار الاقتصادي، لذلك فإن بناء نموذج ناجح يستوجب إعادة النظر في دور الدولة بحيث تتحول من فاعل اقتصادي مباشر إلى محفز وداعم اكثر يوفر الإطار الملائم لتطوير هذه المؤسسات دون أن يقحمها في حسابات سياسية أو يخضعها لمعادلات ظرفية.

وفي هذا السياق، تبرز مسألة التمويل كأحد أكبر التحديات التي تواجه الشركات الأهلية إذ إن غياب آليات تمويل مبتكرة قد يفرغ هذا النموذج من محتواه ويجعل استمراريته مرهونة بدعم الدولة أو بمبادرات محدودة غير قادرة على تحقيق الاستدامة، لذلك فإن ضمان نجاح هذه الشركات يقتضي التفكير في حلول تمويلية بديلة مثل الصناديق الاستثمارية التشاركية وآليات التمويل الجماعي والشراكات بين القطاع العام والخاص بحيث لا تبقى هذه المؤسسات معزولة عن المنظومة المالية ولا تصبح رهينة للتمويلات التقليدية التي عادة ما تقصي المشاريع ذات الطابع التشاركي لصالح النماذج الرأسمالية المألوفة.

لكن التحديات لا تتوقف عند الإطار القانوني والتمويلي بل تمتد إلى إشكاليات أعمق تتعلق بالثقافة الاقتصادية السائدة، إذ إن أي تحول اقتصادي لا يمكن أن يُكتب له النجاح إذا لم يرافقه تحول في الذهنية الاقتصادية للمجتمع بحيث لا ينظر إلى النشاط الاقتصادي بوصفه مجرد وسيلة لتحقيق الربح الفردي بل باعتباره أداة لإرساء التوازنات الاجتماعية وضمان توزيع أكثر عدالة للثروة، وهذا يستدعي برامج تعليمية وتوعوية تعيد تعريف مفهوم الاقتصاد بوصفه مجالا جماعيا يتجاوز المنطق الميكانيكي للعرض والطلب ويؤسس لعلاقة جديدة بين المواطن والمؤسسة الاقتصادية قوامها الشراكة والمسؤولية المشتركة.

من هذا المنظور، فإن مستقبل الشركات الأهلية لا يقاس فقط بمدى قدرتها على تحقيق عائدات مالية بل بمدى نجاحها في إعادة صياغة العلاقة بين الاقتصاد والمجتمع بحيث لا يبقى النشاط الاقتصادي محصورا في دائرة رأس المال التقليدي بل يصبح أداة لإعادة تشكيل الخارطة الاجتماعية وإرساء نموذج تنموي أكثر استدامة، وهذه الرؤية تفرض إعادة تقييم مؤشرات النجاح بحيث لا تقاس فقط بمعدلات النمو أو الأرباح بل أيضا بمدى تحقيق التوازن الاقتصادي وقدرة هذه المؤسسات على خلق فرص عمل منصفة وتقليص الفوارق الاجتماعية وتعزيز الشعور بالانتماء الاقتصادي لدى الأفراد بحيث لا يعود العامل مجرد مُنفّذ للقرارات الاقتصادية بل شريكا في صنعها.

في هذا الإطار، يصبح السؤال المحوري هو كيف يمكن ترجمة هذه الرؤية إلى سياسات عملية قادرة على إحداث أثر ملموس؟ الإجابة عن هذا السؤال تتطلب رؤية استراتيجية متكاملة تستند إلى منظومة تشريعية مرنة وآليات تمويل مبتكرة وإدارة كفؤة تدرك أن نجاح هذا النموذج لا يتحقق بقرارات فوقية بل من خلال ديناميكية مجتمعية تؤمن بأن التنمية لا يمكن أن تكون ناجحة إلا حين تصبح مشروعا جماعيا يشارك فيه الجميع لا مجرد آلية تفرضها سياسات ظرفية دون أن تجد امتدادا في الواقع.

ختاما، إن الشركات الأهلية في جوهرها ليست مجرد تجربة اقتصادية جديدة بل هي محاولة لإعادة تعريف دور المؤسسة الاقتصادية داخل المجتمع بحيث لا تبقى مجرد أداة لإنتاج السلع والخدمات بل تتحول إلى ركيزة لبناء نموذج تنموي أكثر عدالة واستدامة، ولكن هذا التحول لا يمكن أن يتم بمعزل عن إرادة سياسية واضحة وإطار قانوني محفز وانخراط مجتمعي واسع يضمن لهذه المؤسسات أن تتحول من مجرد فكرة نظرية إلى واقع اقتصادي قادر على الصمود ليس فقط في مواجهة تحديات السوق بل أيضا في مواجهة الذهنية التقليدية التي ما زالت ترى في النشاط الاقتصادي مجرد معادلة ربحية دون أن تستوعب أن الثروة الحقيقية لا تقاس فقط بحجم رأس المال بل بمدى قدرة أي نموذج اقتصادي على تحقيق العدالة وإعادة توزيع الفرص،د وإرساء توازن جديد بين العمل ورأس المال يعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان والاقتصاد على أسس أكثر إنصافا.

آخر الأخبار

بعد نجاحه كموزع وملحن: حمدي المهيري يبدع كفنان ونجاح كبير لأغانيه 

بعد نجاحه كموزع وملحن: حمدي المهيري يبدع كفنان ونجاح كبير لأغانيه 

ايام قرطاج لفنون العرائس: وزيرة الشؤون الثقافية تحرص على مشاهدة عرض عرائسي

ايام قرطاج لفنون العرائس: وزيرة الشؤون الثقافية تحرص على مشاهدة عرض عرائسي

جمعية قدماء الجمعيات الرياضية تعقد ندوة صحفية ردا على المشككين و تقدم بالمناسبة عرضا للندوة التي ستقام  لدراسة وضعية كرة اليد

جمعية قدماء الجمعيات الرياضية تعقد ندوة صحفية ردا على المشككين و تقدم بالمناسبة عرضا للندوة التي ستقام  لدراسة وضعية كرة اليد

سفير إيطاليا بتونس يشرف على إفتتاح النسخة الأولى من برنامج التعاون الثنائي للتدريب الإداري لشركات الأغذية الفلاحية

سفير إيطاليا بتونس يشرف على إفتتاح النسخة الأولى من برنامج التعاون الثنائي للتدريب الإداري لشركات الأغذية الفلاحية

الشركات الأهلية فرصة نحو هندسة اقتصادية بديلة لإعادة تشكيل المنظومة التنموية

الشركات الأهلية فرصة نحو هندسة اقتصادية بديلة لإعادة تشكيل المنظومة التنموية

Please publish modules in offcanvas position.