لا تونس يمكنها أن تحل إشكالية الهجرة دون جوارها التاريخي والجغرافي، ولا إيطاليا يمكنها أن تنعم بإمساك البحر عن حمل قوارب الموت دون المساهمة الإيجابية في حل الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في شمال أفريقيا.
اختارت تونس الرد على المقاربة الإيطالية للهجرة غير الشرعية في البحر المتوسط بشكل استراتيجي عميق بمنأى عن المناكفات السياسية والمزايدات الخطابية.
اجتبت تونس منبر الأمم المتحدة لبلورة منظومة مشتركة مع الدول المعنية بملف الهجرة في البحر المتوسط، قصد تحييد المسلكية الإيطالية حيال الهجرة وتوفير البديل لإشكالية قوارب الموت المتدفقة على الضفة الجنوبية للقارة الأوروبية.
كان من الواضح أن اجتماع وزير الداخلية التونسي هشام الفراتي بنظيره الإيطالي المثير للجدل ماتيو سالفيني الأسبوع الماضي، كان تقنيا بامتياز حتّى يستكمل الخبراء من البلدين وضع النقاط على حروف اتفاق “ترحيل المهاجرين التونسيين غير الشرعيين من إيطاليا”، وهو اتفاق يقتضي التنسيق الثنائي والتثبت الأولي من هويات المرحَّلين.
ولأنّ زيارة الضيف الإيطالي كانت تعبيرا عن روما الجديدة الانعزالية والإلغائية، حيث كُرست الزيارة في سبيل تحقيق أهداف ومتطلبات اليمين المتطرف القابض على إيطاليا هذه الأيام، دون أدنى اعتماد على المقاربات التشاركية التي تميز بلدان المتوسط وفي انقلاب سمج على الدبلوماسية الإيطالية المنفتحة حيال جغرافيا الجوار، فإن برودا رسميا تونسيا حف بالزيارة والزائر.
ولم تتأخر الدبلوماسية التونسية عن استثمار الجمعية العامة، للانخراط في مقاربة شاملة لقضايا الهجرة غير الشرعية تراعي الدواعي الأمنية لدول الاستقبال وتتفهم الأسباب العميقة لهجرة الشباب من دول المنبع وترسي بديلا حقيقيا حيث تكون الهجرة قرينة الكرامة لا الامتهان.
خصص وزير الخارجية خميس الجهيناوي فقرة كاملة من كلمته المقتضبة في منبر الجمعية العامة للتطرق إلى الهجرة بكافة مستوياتها، ولتوجيه رسائل واضحة المقصد والوجهة بضرورة الابتعاد عن خطاب “الكراهية ضدّ الآخر” والتعويل على خطاب إيجابي حيال الهجرة التي تبقى اللبنة الأساس لبناء الحضارة الإنسانية. كشف خطاب الجهيناوي التوجهات الكبرى للدبلوماسية التونسية خلال الفترة القادمة، “التوجه نحو العمق الأفريقي”، “الحصول على عضوية غير دائمة في مجلس الأمن الدولي”، “وبناء شراكات أفريقية أوروبية لإشكاليات الهجرة”.
ذلك أن ملف الهجرة بات اليوم صداعا مؤلما للدولة التونسية، لا فقط لأن انتشار عدوى اليمين المتطرف في عدة عواصم أوروبية من شأنه أن يزيد من تفاقم الأزمة الاجتماعية والاقتصادية في البلاد، بل لأن تفكير الإلغاء والإقصاء عاجز عن ابتكار حلول خارج إطار تصدير الهامش البشري على غرار إنشاء “غوانتنامو متوسطي” أو تركيز منصات دائمة للمهاجرين غير الشرعيين.
تؤكد المصادر الرفيعة من نيويورك أن الدبلوماسية التونسية وجدت في الأمم المتحدّة آذانا صاغية وعقولا متفهمة، الأمر الذي مكنها من ترؤس اجتماع رفيع المستوى حول الهجرة بحضور وزير الخارجية المالطي كارميلو أبيلا، وبتمثيل رسمي فرنسي وأوروبي عال وبعضوية ممثلين عن المراكز الدولية المهتمة بالهجرة.
لم يحد الاجتماع الذي اختير له شعار معبّر عن الرهان والراهن “إعطاء الكلمة للحقائق: التغلب على الخطاب غير المتوازن وتطوير سياسات الهجرة القائمة على الأدلة”، عن الأهداف الكبرى للدبلوماسية التونسية والمتجسدة في دق ناقوس الخطر بأن معضلة الهجرة ستستحيل إلى مأساة إنسانية في حال أسقط اليمين المتطرف عواصم أوروبية جديدة، أو بات يحظى بحضور وازن في البرلمانات والمجالس النيابية الأوروبية.
تنظر تونس بتفاؤل حذر لاجتماع مراكش نهاية العام الجاري والذي سيحتضن “الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية”، وهي مبادرة أممية لتوفير المقاربات البديلة عن قوارب الموت.
ولئن اعتبرنا أنّ تفاؤل تونس مشوب بالحذر فلأن عواصم منخرطة جغرافيا في قضية الهجرة بالمتوسط تبدي رفضا واضحا لأيّ مقاربة تشاركية تفضي إلى معالجة عميقة وإنسانية لقضايا الهجرة، ولا سيما عقب نيلها مباركة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ما يخص رفض استقبال المهاجرين غير الشرعيين وتشييد جدران من الكراهية والبغض قبالة جيرانها.
في معرض ردّه غير المباشر على المطلب الإيطالي بالترحيل الفوري للمهاجرين، ذكّر الجهيناوي باستقبال تونس إبّان الحرب في ليبيا عام 2011 آلاف الرعايا الأجانب خاصة من الأشقاء الليبيين والسوريين والأفارقة من دول جنوب الصحراء، مشيرا إلى أنهم يعيشون اليوم في تونس في كنف احترام تام لحقوق الإنسان ويلقون كل الحفاوة من الشعب التونسي.
أن تتحول العلاقة التاريخية بين تونس وإيطاليا، إلى مناكفات سياسية مباشرة وغير مباشرة، أمر غير مقبول مهما كانت الاعتبارات، فلا تونس يمكنها أن تحل إشكالية الهجرة دون جوارها التاريخي والجغرافي، ولا إيطاليا يمكنها أن تنعم بإمساك البحر عن حمل قوارب الموت دون المساهمة الإيجابية في حل الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في شمال أفريقيا. وهو ما يجب أن يفهمه ساكنو روما الجدد قبل حصول فواجع جديدة في البر والبحر.
أمين بن مسعود / كاتب ومحلل سياسي تونسي