حركة النهضة مطالبة لا فقط بالفصل بين المدني والديني، بل أيضا بالفصل بين الأيديولوجي والحزبي داخليا وخارجيا، فتونس أكبر من سياسة المحاور وأعلى من كل باب عال.
التعاطي السياسي في تونس مع قضية الصحافي السعودي جمال خاشقجي زاد من حدّة التباين الحزبي بين قطبيْ الحكم والمعارضة في البلاد؛ حركة النهضة من جهة، وحركة نداء تونس من جهة ثانية.
فبعد أسابيع من الصمت المطبق من الفاعلين السياسيين حيال القضية، ومن الإقرار الصامت بصحة موقف الدبلوماسية التونسية والذي عبر عنه وزير الخارجية خميس الجهيناوي بالتنديد بالفعلة الشنيعة التي استهدفت إعلاميا خليجيا معروفا دون السماح بتجييرها لضرب أمن واستقرار المملكة العربية السعودية. فبعد هذه الفترة من السكوت، اختار رئيس حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي الخروج عن مبادئ وأدبيات الدبلوماسية التونسية المعروفة بعدم تدخلها في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، من خلال تخصيص فقرة كاملة من خطابه الأخير أمام إطارات الحركة، لقضية جمال خاشقجي والتي وصف وشبه فيها الصحافي السعودي الراحل بمحمد البوعزيزي مفجر الانتفاضة التونسية في العام 2011.
وعلى الرغم من إجراء الغنوشي لحوار صحافي مع وكالة الأنباء التركية الأناضول سعى خلاله إلى تلطيف التصريح والتخفيف من وطأته، إلا أن الخطاب في نسخته الأصلية كان أوضح من أن يفسّر أو أن يقلل من معانيه ودلالاته، وعلى ضوئه يبدو أن الرياض اتخذت موقفا حادا برفضه أو التنديد به.
صحيح أن السفارة السعودية في تونس لم تصدر بيانا في الغرض، وصحيح أيضا أن الخارجية السعودية لم تتفاعل مع خطاب الغنوشي بشكل مباشر، ولكن الاجتماع الذي جمع سفير المملكة العربية السعودية في تونس مع قادة حزب نداء تونس، والذي يُعدّ اليوم تقريبا الحزب الأكثر معارضة ومناكفة للنهضة، ويحمّلها مسؤولية انشقاق الحزب وكافة مشاكله الداخلية، يصعب وضعه في غير خانة التنديد السعودي بتصريح وتوصيف الغنوشي.
كما أنّ ظهور القيادي في نداء تونس رضا بلحاج على قناة الإخبارية السعودية وتحميله النهضة مسؤولية الحالة المتردية للحزب، وتنديده أيضا بتصريح راشد الغنوشي وتشبيهه خاشقجي بالبوعزيزي، إضافة إلى الرفض الواسع الذي لقيه التصريح من قبل الإعلام السعودي، يدفع بالتحليل نحو الموقف السعودي الرافض لخطاب الغنوشي.
في غضون ذلك، اختار الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي خلال حوار صحافي مع قناة “دوتشليه فيله” الألمانية، التأكيد على موقف الدبلوماسية التونسية من الأزمة، مع التشديد على ثقة الدولة التونسية في قدرة المملكة العربية السعودية على الكشف عن الحقيقة وتقديمها إلى الرأي العام العالمي.
وبين سطور تصريحات السبسي، تبرؤ تام من خطاب الغنوشي وتنديد ببعض الحملات السياسية والإعلامية المستهدفة لأمن واستقرار السعودية، وهي حملات تديرها أطراف إقليمية قريبة من الغنوشي ومن حزبه أيضا.
وعلى اعتبار أنّ التصعيد على المملكة العربية السعودية أخذ شكل “الأوركسترا” حيث يؤمّن كل طرف جزءا من الحملة ضدها، بشكل متزامن ومطرد، من التصعيد الإعلامي إلى السياسي إلى الدبلوماسي إلى المدني إلى الحزبي، فمن الواضح أن الرياض لم تقرأ تصريح الغنوشي كخطاب محلي داخلي يعبر عن الحركة وعن رؤية قواعدها وقياداتها، بل استقرأته كجزء من منظومة دعائية إخوانية – قطرية – تركية، تصفي حسابات الماضي على دماء قميص خاشقجي، وتستحضر رهانات الغد على راهن الأزمة وتعقيداتها.
أما داخل حركة النهضة، فيبدو أن هناك قناعة راسخة بأن مخرجات الأزمة ستكون لصالح إما الحليف الرئيسي عبر التخفيف من العقوبات الاقتصادية على تركيا والسماح لها بلعب دور في شمال سوريا، أو لصالح الداعم القوي القطري عبر التلطيف من الطوق الاقتصادي عليها، أو ضدّ حلف مناوئيها (المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية ودولة البحرين ومصر).
وقد تكون هذه الحسابات هي التي تجعل من راشد الغنوشي يصعّد من حدة الخطاب السياسي ضد الرياض، قصد إثقال الفاتورة السياسية على كاهل المملكة والدفع بها نحو تسويات لا ترضيها تماما، أو في أسوأ الحالات ترضيها وقد لا ترضي حلفاءها، الذين يتابعون بقلق مجريات أزمة ملف جمال خاشقجي.
استطاع الرئيس الباجي قائد السبسي خلال فترة حكمه، إعادة مياه الدبلوماسية التونسية مع العمق العربي بصفة عامة ومع العمق الخليجي بصفة خاصة، إلى مجاريها، وتمكن من جسر الهوة السحيقة التي تركتها حكومة “الترويكا” في العلاقات مع الكثير من العواصم الخليجية والتي كادت أن تصل إلى حدّ قطع العلاقات الدبلوماسية.
قيمة هذا الاستذكار متعلّق بإمكانية استيلاد منظومة حكم جديدة على خلفية الانتخابات القادمة عام 2019، قد تقودها النهضة وقد تعيد ذات الأخطاء والمخاطر والمحاذير الدبلوماسية التي اقترفتها سابقا، والتي يبدو أنها لم تتعلم الدروس منها على ضوء تصريحات الغنوشي الأخيرة.
حركة النهضة مطالبة اليوم، لا فقط بالفصل بين المدني والديني، بل هي مطالبة أيضا بالفصل البات والنهائي بين الأيديولوجي والحزبي داخليا وخارجيا، ومدعوة إلى البتر مع منطق المركز والهامش والقيادة والفرع، لأن تونس أكبر من سياسة المحاور وأعلى من كل “باب عال”.
أمين بن مسعود / كاتب ومحلل سياسي تونسي