الصفحة 3 من 3
سرير بروكرست
هذا التضامن من دار الكتب الوطنية مع بيت الرواية، يكشف عن شروخ وخلافات بين المسيّس وغير المسيّس في المشهد الثقافي التونسي، أي بين ثقافة محضة يروم أصحابها النشاط تحت سقف الاحتفاء بالإبداع -ولا شيء غير الإبداع- وسياسة ثقافية منشغلة بالحسابات الحزبية والمحاصصات الوزارية.
الاتهام بالتطبيع أصبح بعبعا في تونس، وعصا غليظة يلوح بها نواب محسوبون على التيار العروبي ضد زملاء لهم من الليبراليين والديمقراطيين تحت قبة البرلمان. ويرى عدد كبير من مثقفي تونس أن هذه التهمة الجائرة صارت تشبه قصة سرير بروكرست، التي يظلم فيها صاحب الامتياز السلطوي كل من لم يكن على مقاس سريره فيبتر من أطرافه أو يمددها وفق ما يراه مناسبا لأهوائه ومصالحه.
وتحيلنا مهزلة امتناع وزارة الثقافة التونسية عن استقبال المفكر الأرجنتيني الكندي، بدعوى تعامله مع إسرائيل، إلى ما كان سائدا في سوريا أثناء تسعينات القرن الماضي، إذ احتكر ما يعرف باتحاد الكتاب العرب في دمشق، راية “الذود عن العروبة” وبادر إلى إنشاء مراصد تشبه محاكم التفتيش، وتخوّن كل أصحاب الفكر الحر من الذين يصنعون إبداعا يبتعد عن الشعارات الثورجية، ويرنو إلى قيم إنسانية أكثر رحابة من اجترار ما كان سائدا في الفترتين الناصرية والبعثية.
تزعّم هذه الحملة آنذاك، السوري علي عقلة عرسان، والأردني فخري قعوار، وأصبح الاثنان يضيفان كل يوم أسماء جديدة إلى قائمة “المشتبه بهم” من الكتاب العرب. المضحك المبكي في الأمر أن تلك القائمات السوداء قد شملت خيرة المبدعين العرب بينما اصطف الانتهازيون وضعاف الموهبة إلى جانب عقلة عرسان وقعوار، في مشهد بائس يكرس الوصاية على المثقف، ويعزز سلطة صغار الكتبة في أجهزة المخابرات.
هذه النزعة سرعان ما انحصرت في سوريا ولبنان بعد تطورات إقليمية وضغوطات دولية، ترافقت مع تنامي الوعي لدى جمهور الكتاب والقراء على حد السواء، لكنها اليوم تجد انتعاشا لها في تونس بعد 2011 وتسلل أصحاب الهوى الناصري والبعثي إلى مواقع الضغط والقرار، ونجاحهم في استقطاب مؤيدين بسطاء أو مغفلين، وذلك بعد نفوق النزعة العروبية وإفلاسها في أرضها ومنبتها.
شبح تجريم التطبيع يجعل المتهمين به يحاولون تبرئة أنفسهم عبر مجموعة سرديات تشرح مواقفهم وتعيد التأكيد على معاداتهم للممارسات العنصرية في إسرائيل، فيحيدون عن ذكر مشاريعهم الإبداعية لكي يتحدثوا أمام جمهورهم عن بديهيات إنسانية، وكأنهم في قفص الاتهام.
مانغويل الذي يشاطر مواطنه الكاتب الشهير، الراحل خورخي لويس بورخيس في كون الأدب لا يحمل جنسية ولا يندثر مهما مرت الأزمنة عليه، ويبقى مستمرا في كسر الحدود التي يصنعها العالم، أبدى في لقائه السبت الماضي بجمهور الكتاب والمهتمين، تضامنه مع القضية الفلسطينية قائلا “ونحن بصدد الحديث عن الأدب هناك أطفال يتعرضون للتشرد والإقصاء في العالم مثلما يحدث في فلسطين”. وكان مانغويل قد دعا في وقت سابق، وعندما كان يترأس المكتبة الوطنية بالأرجنتين، إلى إنشاء مكتبة وطنية فلسطينية افتراضية بُغية إثبات وجود الفلسطينيين وتخليد تاريخهم وهويتهم المطموسة.
هل تكفي هذه “الطمأنة” حشود المنادين بتجريم التطبيع في تونس، ليتأكدوا من أن الكاتب الذي اخترقت رواياته وكتاباته كل الحواجز اللغوية، وسافر بأعماله إلى سائر أنحاء العالم، ليس “متصهينا” أم أن في الأمر “عنز ولو طارت” خصوصا عند أولئك المتاجرين بالقضية القومية؟
وهل يقبل المزايدون بالوطنية في تونس بمانغويل، ضيفا مبجلا في بلادهم بعد أن أبدى اعتزازه بالهدية الرمزية التي قدمت له على شكل بيتين من قصيدة “إرادة الحياة” لشاعر تونس أبي القاسم الشابي؟ وكذلك قدم له فريق مؤسسة بيت الرواية مجسدا لشخصية “برق الليل”، إحدى روائع الأدب الخالدة للكاتب التونسي الراحل البشير الخريف.
حكيم مرزوقي
كاتب تونسي