المشهد الانتخابي في تونس يحتاج إلى إصلاح هيكلي عميق ينطلق من تأثيث الأدوار الإعلامية والدينية والجمعياتية وسبر الآراء والنأي بها عن كل توظيف انتخابي.
بعودة تنقيح القانون الانتخابي برمته إلى لجنة صياغة القوانين في البرلمان، تكون الطبقة السياسية التونسية قد نجحت في تغليب منطق الإصلاح الشامل والجذري للعملية الانتخابية، بدلا من الارتكان إلى الترقيع السطحي أو تطويع القانون وفق منطق المُغالبة السياسية.
لا أحد بإمكانه أن يجادل حول استحقاق إصلاح العملية الانتخابية في تونس، لا فقط في مستوى الحصيلة الاقتراعية الخاصة بالعتبة، بل أيضا في مستويات عديدة وكثيرة من بينها تنظيم قطاع سبر الآراء، وفصل الجمعياتي عن السياسي، والإعلامي عن الانتخابي، ومراجعة المشهد الجمعياتي برمته.
ولا نظن أيضا أن مشهد أرخبيل الجزر البرلمانية المتناحرة تحت قبة البرلمان، والذي كاد يدفع بالبلاد نحو سيناريو إعادة الانتخابات في وقت سياسي واجتماعي واقتصادي حرج، يتناسق مع المرحلة السياسية والإقليمية والاقتصادية العصيبة التي تعيشها تونس.
ولكن في المقابل، فإن اختصار الإصلاح الانتخابي في مسألة “العتبة”، دون ربطه بالمنظومة الانتخابية التي تحتاج إلى إعادة هيكلة عميقة، من شأنه لا فقط تحويل العملية الانتخابية إلى فعل كمي عددي بمنأى عن أيّ نية لتنظيم الحياة السياسية، بل من شأن هذا الاختزال أن يُحوّل الفعل الانتخابي إلى سوق إعلانية ودعائية كبيرة لا يقدر على الدخول إليها إلا من يتمتع بماكينة انتخابية قاهرة وقادرة.
وهو ما يتنافى مع أمرين اثنين، الأول الفعل الانتخابي بما هو تكريس للديمقراطية والتعددية في الآراء السياسية والمقاربات الفكرية، والثاني وهو طبيعة الانتقال الديمقراطي في تونس والذي من المفترض أن يستوعب التمثيلية الواسعة عوضا عن التمثيل الكلاسيكي المعروف.
بيد أن هذه الأمور لا تتنافى مع ضرورات الحُكم التي تفرض تحالفا بين أحزاب سياسية كبرى قادرة على تأمين الغالبية المعززة بأسهل الطرق، ولا تتناقض مع إلزامية أن تجتمع العائلات السياسية المعروفة ضمن أحزاب سياسية وأن تبتعد عن أمراض الزعاماتية الفارغة وأوبئة البطولات الجوفاء.
من حق الأحزاب السياسية أن ترفض العتبة خشية من اندثار غالبيتها خاصة وأن أكثرها وصلت إلى البرلمان إما بالتحالف المدنس مع الإعلام الجماهيري، وإما بالصدفة السياسية التي فعلت في تاريخ وجغرافيا تونس الشيء الكثير، ومن حقها أيضا أن ترى في مشروع القانون التفافا من الحيتان الحزبية الكبرى على الأسماك الصغيرة، ولكن في المقابل من واجبها مغادرة الوضعية الميكروسكوبية والبحث عن تحالفات ضمن المجال العام المفتوح مع التيارات القريبة، والتفكير في التأسيس الجماعي للبدائل الاجتماعية والاقتصادية بعيدا عن منطق الاحتكار والتوريث.
مشروع العتبة كشف للجميع أن هُناك أحزابا سياسية كبرى، بالمعنى الانتخابي، ترفض المشاركة مع أحزاب أقل منها حضورا وتمثيلا، ولكن في المقابل أظهر أن هناك أحزابا سياسية صغرى تتخوف من أن تكبر وأن يكون لها وزن في المشهد السياسي بالبلاد، وأن تقدم التنازلات المعنوية والرمزية اللازمة لذلك.
وفي المحصلة أيضا، تمكنت حركة النهضة من خلال التلويح بهذه الورقة الانتخابية من تحقيق مآرب سياسية واضحة، على رأسها الحصول على “كوتا” معتبرة في حكومة إلياس الفخفاخ تبدأ من الحقائب الوزارية وتمر عبر أسماء الوزراء ولا تنتهي بعضوية ديوان رئيس الوزراء.
ولئن كان من المنطقي أن نشجب وظيفية النهضة في التعامل مع القوانين الانتخابية وفي تجيير الاستحقاقات الانتخابية المبكرة كورقة ضغط على الشركاء، فإنه من المنطقي أيضا أن نرفض حالة الهوان التي تعرفها الكثير من الأحزاب السياسية والتي جعلت منها عرضة للابتزاز السياسي والحكومي.
المشهد الانتخابي في تونس، يحتاج إلى إصلاح هيكلي عميق ينطلق من تأثيث الأدوار الإعلامية والدينية والجمعياتية وسبر الآراء والنأي بها عن كل توظيف انتخابي، فالكثير ممن يتبوّؤون اليوم مقاعد في البرلمان وصلوا عبر الفضائيات والإذاعات غير القانونية والعمل الجمعياتي الخيري والخطاب الدعوي الديني، واختفوا وراء أكثر من قناع قبل أن يكشفوا عن وجوه المناصب والتوزير، وهو شكل من أشكال التزوير الأخلاقي والمناقبي.
والحقيقة أن الأحزاب الكبرى، ومن بينها النهضة، تستفيد من هؤلاء كثيرا، لا فقط لأنهم بلا مقاربات سياسية وفكرية عميقة تجذر مواقفهم، بل لأن أغلبهم استنفدوا لعبة التحايل على الرأي العام، وبالتالي تصبح توسلاتهم إلى الماكينات السياسية والانتخابية القادرة على إعادة إيصالهم إلى البرلمان، كبيرة وواضحة ومُثيرة للشفقة.
الواجب اليوم، إعادة التفكير العملي والنقدي في تحويل قانون العتبة إلى قانون حقيقي لإصلاح المشهد السياسي قبل الانتخابي، وإضفاء المزيد من المعايير الأخلاقية في السياسة، وتوضيح مجالات العمل للناشطين في الجمعيات، والأكثر أهمية من كل ما سبق أن تفكر الأحزاب السياسية الهامشية بمنطق التكتل التاريخي للعائلات الفكرية، وأن تعرف أن وجودها واستمرارها في التاريخ مشروط بتحالفاتها وتنازلاتها في الحاضر.
أمين بن مسعود
كاتب ومحلل سياسي تونسي