المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية ترى في أحدث تقاريرها أن الخلافات السياسية كبلت تطبيق بنود الدستور.
تونس – بعد ستة أعوام من سن المجلس التأسيس التونسي لدستور الجمهورية الثانية، يتأكد للمختصين في القانون الدستوري أن هذه الوثيقة الديمقراطية لم تخل من ثغرات وعيوب بالنظر إلى البطء في تنفيذ بنودها والأحكام التي تضمنتها ما جعلها تتأرجح بين إشكاليات التكييف القانوني والاختلالات على المستوى التطبيق الفعلي.
ولعل ما سرده فرع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية بتونس في سياق تقريره نصف السنوي ضمن نسخته العاشرة حول “متابعة تطبيق الدستور التونسي وتجسيده على مستوى الإطار القانوني”، والتي غطت الفترة الفاصلة بين أكتوبر 2019 ونهاية مارس الماضي، يعطي ملامح أكثر وضوحا للاعتقاد السائد بين التونسيين بشأن بنود الدستور ومآلات تطبيقها على أرض الواقع منذ المصادقة عليه في 2014.
وخلال تركيز معدي التقرير على مدى تطبيق الدستور في العديد من المجالات، والتي من أبرزها الحقوق المدنية والسياسية والمساواة والفصل بين السلطات واستقلالية القضاء ودولة القانون والشفافية والهيئات الدستورية المستقلة واللا مركزية وجدوا أن تنفيذ بنوده تسير ببطء. وقد أشاروا، كتدليل على ذلك، إلى إصدار ثلاثة أوامر حكومية فقط في علاقة بتطبيق مجلّة الجماعات المحلية بينما لا تزال عدّة أحكام من الدستور غير مفعلة حتى الآن.
وأكثر المشكلات إثارة للجدل باعتبارها إحدى النقاط السوداء في المسار الديمقراطي الناشئ بعد انتفاضة يناير 2011، والتي طرحتها المنظمة الدولية هي غياب الإرادة السياسية بين الكتل البرلمانية، التي تشكل مجلس نواب الشعب، لإنشاء المحكمة الدستورية، حيث يمثل تأخر المصادقة على أعضائها ثغرة كونها الجهة المخولة بالنظر في مسألة التشريعات والفصل فيها إذا حصل خلاف حولها، وهذا الأمر تسبب في تداعيات سلبية للغاية على الحياة السياسية انعكست على تناسق النظام القانوني وعلى سير النظام السياسي “الهجين”.
وفي ما يتعلّق بالهيئات الدستورية المستقلة المنصوص عليها في الباب السادس من الدستور وعددها خمس، لم يتمّ تأسيس إلا هيئة واحدة، وهي الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، بينما يظلّ مسار عمل هيئة الاتصال السمعي البصري وهيئة حقوق الإنسان وهيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة وهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، متعطلا.
وخلال السنوات الماضية، كانت المحكمة الدستورية محل تنازع بين النواب، وصل إلى الذروة في شهر يوليو الماضي عندما أرادت حركة النهضة، التي تسيطر على أغلبية البرلمان سحب الثقة من رئيس الحكومة السابق إلياس الفخفاخ بسبب تضارب المصالح، الأمر الذي جعل النقاشات تحتدم وأفرز خلافا دستوريا بين المؤسسة التشريعية ومؤسسة الرئاسة حول ذلك.
وهناك إشكال قانوني يرتقي إلى خرق الدستور، فبحسب معدي تقرير المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية، فإن الفصل الخامس من الدستور الجديد ينص على وجوب إرساء المحكمة الدستورية في أجل لا يتجاوز عاما من تاريخ الانتخابات التشريعية الأولى، وهو ما لم يحصل بسبب الصراعات السياسية بين الأحزاب وخاصة النهضة المحسوبة على تيار الإسلام السياسي، حيث تعمل على وأد أي محاولة لإقصائها من المشهد وهي تسعى جاهدة لفرض أسماء معينة لتشكل أغلبية أعضاء المحكمة.
وبما أن إرساء المحكمة الدستورية، الذي لم يتحقق فعليا حتى الآن، كما سبق وأشرنا، يعتبر أمرا ضروريا كونه أحد بنود هذه الوثيقة الدستورية، التي تؤسس لدولة مدنية حديثة تبتعد عن المحاصصات الحزبية وتقطع مع الأنظمة الحاكمة القديمة في عهدي الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، باعتبار وأن هذا الكيان هيئة قضائية مستقلة ضامنة لعلوية الدستور وحامية للنظام الجمهوري وللحقوق والحريات، فإن هذه القضية لا تزال تشكل ثغرة وجب على الجميع تفاديها سريعا.
كما سرد التقرير مدى اقتصار الرقابة المسبقة على المحكمة الدستورية والمسندة إلى الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، على مشاريع ومقترحات القوانين فقط، مما جعل مراقبة دستورية المعاهدات الدولية التي وافق عليها البرلمان غير واردة، كما حال ذلك الأمر أيضا دون تحقيق الرقابة على النظام الداخلي للمؤسسة التشريعية.
ويلاحظ في خضم ذلك مدى غياب الرقابة الدستورية اللاحقة للقواعد القانونية، والتي يفترض، وفق المختصين في القانون الدستوري، أن تمارس بواسطة المسألة الأولية المتعلقة بالعملية الدستورية بشكل عام، الأمر الذي سمح ببقاء معايير قانونية قد تشوبها عيوب دستورية نافذة، في النظام القانوني ما جعل من التعقيدات تتراكم دوريا دون التوصل إلى حلول تنسجم مع ما يمليه النظام السياسي.
وتطرح مشكلة إحالة فض النزاعات المتعلقة باختصاص كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة إلى المحكمة الدستورية للبت فيها الكثير من نقاط الاستفهام لأن ذلك قد يكبل عمل أي منهما، لاسيما إذا ما تم تسليط الضوء على التشابكات الحاصلة اليوم، وبالإضافة إلى ذلك، فإنه من غير الممكن تحديد حالتي الشغور الوقتي والشغور النهائي في منصب رئاسة الدولة، حيث بات تطبيق إجراءات “إعفاء الرئيس من منصبه في حالة ارتكابه لخرق جسيم للدستور” غير ممكن.
رياض بوعزة
صحافي تونسي