في السنوات الأخيرة، أصبحت هجرة الأطباء التونسيين ظاهرة مقلقة تهدد بخلخلة النظام الصحي في البلاد، حيث غادر حوالي 4000 طبيب خلال السنوات الثلاث الأخيرة بحثًا عن ظروف أفضل. هذه الهجرة ليست مجرد بحث عن فرص مهنية أو تحسين مستوى المعيشة، بل تعكس أزمة بنيوية عميقة داخل القطاع الصحي في تونس وتُثير تساؤلات حول قدرة الدولة على الحفاظ على مواردها البشرية.
مقالات ذات صلة:
دراسة: 78% من الأطباء المقيمين مستعدون للعودة إلى تونس بشروط
المنظمة التونسية للأطباء الشبان تقاطع التربصات بسبب نقص الأطباء الداخليين
الأطباء الشبان يعلنون مقاطعة اختيار مراكز التربصات احتجاجًا على نقص الأطباء في المستشفيات
نزيف متصاعد وأرقام صادمة
تشير المعطيات إلى أن هجرة الأطباء فاقت بكثير قدرة كليات الطب التونسية على تعويض النقص، حيث يغادر سنويًا ما يزيد عن 1500 طبيب، بينما يبلغ عدد الخريجين حوالي 900 فقط. هذا الخلل يعكس فشلًا واضحًا في التخطيط لإدارة الموارد البشرية في قطاع يعد من أعمدة التنمية والاستقرار الاجتماعي.
الأكثر خطورة، كما أشار تقرير المركز التونسي للدراسات الاستراتيجية، أن 78% من الأطباء المهاجرين مستعدون للعودة، لكن بشروط تضع الدولة أمام تحديات أكبر، منها تحسين بيئة العمل، رفع الأجور، وضمان سلامة الأطباء. هذه المطالب تسلط الضوء على جوانب القصور الهيكلية التي دفعت بالكفاءات الطبية إلى مغادرة البلاد.
ما وراء الهجرة: قراءة في الأسباب
* البنية التحتية المتردية: يعاني القطاع الصحي التونسي من نقص كبير في المعدات والتجهيزات، ما يجعل العمل في المستشفيات العمومية أمرًا مرهقًا وغير مجزٍ، ويدفع الأطباء للبحث عن بيئة عمل تلبي طموحاتهم المهنية.
* ضعف الأجور: رواتب الأطباء في تونس، رغم الجهد المبذول في سنوات الدراسة والممارسة، لا تكفي لتلبية متطلبات الحياة الكريمة، مقارنة بالمزايا المادية التي توفرها الدول المستقطبة مثل فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة.
* الأمان الشخصي: تزايد الاعتداءات على الأطباء في المؤسسات الصحية، خاصة العمومية، جعل الأمان أحد أهم شروطهم للعودة.
* الجوانب الأسرية: التعليم الجيد للأبناء أصبح عاملاً حاسمًا، حيث تعتبر الدول الأوروبية وجهة مفضلة لضمان تعليم عالي الجودة.
الهجرة بين التحدي والفرصة
تُظهر تصريحات الدكتورة إيناس العيادي بعدًا مختلفًا، حيث أكدت أن الهجرة ليست دائمًا خسارة صافية؛ فهي تُتيح للمهاجرين تطوير مهاراتهم وربما تعود بالنفع على البلاد عند عودتهم. ومع ذلك، يصبح التحدي الأساسي هو كيفية تحويل هذا النزيف إلى فرصة استثمارية بدل أن يكون كارثة وطنية.
هل من حلول حقيقية؟
- تدّعي وزارة الصحة أنها تسعى لتحسين الأوضاع من خلال:
- استكمال المشاريع المعطّلة لتطوير البنية التحتية الصحية.
- تزويد المستشفيات بالمعدات الحديثة لتحسين جودة الرعاية الطبية.
- تحفيز الأداء المالي: ربط المكافآت بجودة الأداء قد يكون خطوة مشجعة، لكنه يظل غير كافٍ.
- ضمان سلامة الأطباء: اتخاذ إجراءات صارمة ضد الاعتداءات وتوفير بيئة عمل آمنة.
- لكن هذه الإصلاحات لا تزال تواجه تحديات كبيرة، أبرزها نقص الموارد المالية وضعف التنسيق بين الوزارات والجهات الفاعلة.
مستقبل الصحة في تونس: سيناريوهات متوقعة
- استمرار النزيف: إذا لم تُسرّع الحكومة في تحسين الظروف، ستتسارع الهجرة، ما قد يؤدي إلى انهيار النظام الصحي العام، خصوصًا في المناطق الداخلية التي تعاني من نقص حاد في الأطباء.
- إصلاح جذري: إن استجابت الدولة لمطالب الأطباء، يمكن أن تعيد استقطاب جزء كبير منهم، مما يعزز استقرار القطاع.
- الشراكة مع الكفاءات المهاجرة: يمكن استثمار هذه الطاقات المهاجرة في مشاريع طبية عن بُعد أو شراكات بحثية.
رسائل للحكومة والمجتمع
هجرة الأطباء ليست مجرد أزمة قطاع صحي، بل هي مؤشر على أزمة أعمق تمس سياسات التنمية البشرية والقدرة على الاحتفاظ بالكفاءات. تحتاج الحكومة إلى رؤية استراتيجية طويلة الأمد، تضع الكفاءات في صدارة أولوياتها، لأن الاستثمار في البشر هو السبيل الوحيد لإنقاذ القطاعات الحيوية، ومنها الصحة.
في النهاية، هجرة الأطباء التونسيين ليست حتمية، بل نتيجة تقصير في تهيئة بيئة عمل تنافسية وآمنة. إذا عالجت الدولة جذور الأزمة، يمكن أن تتحول هذه الظاهرة إلى فرصة لبناء قطاع صحي قوي يعيد الثقة للمواطن التونسي.
