اختر لغتك

الحق في التعليم للأطفال ذوي الإعاقة في تونس بين الالتزام الدستوري والخذلان الواقعي

الحق في التعليم للأطفال ذوي الإعاقة في تونس بين الالتزام الدستوري والخذلان الواقعي

الحق في التعليم للأطفال ذوي الإعاقة في تونس بين الالتزام الدستوري والخذلان الواقعي

يعد الحق في التعليم من أسمى الحقوق الأساسية التي كرستها المواثيق الدولية ونص عليها دستور الجمهورية التونسية بوصفه القاعدة الجوهرية التي تنطلق منها منظومة الحقوق والحريات، إذ لا كرامة ولا مساواة ولا مواطنة دون ضمان حق الجميع، دون استثناء في النفاذ العادل والفعلي للتعليم، ولكن واقع الأطفال ذوي الإعاقة في تونس داخل المؤسسات التربوية العمومية يكشف عن إشكالية بنيوية عميقة تتجاوز مجرد غياب الوسائل لتطرح سؤالا وجوديا حول مدى وفاء الدولة بالتزاماتها الدستورية والقانونية تجاه هذه الفئة ومدى صدق الخطاب الرسمي الذي يروج لمبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية في ظل واقع يقصيهم عمليا، فما معنى أن ينص صراحة في الفصل 47 من دستور 2022 على أن "لكل طفل الحق في التربية والتعليم والتكوين، وعلى الدولة أن تضمن هذا الحق طبقا لمبادئ المساواة وتكافؤ الفرص" في حين يعجز الأطفال ذوو الإعاقة عن الحصول على أدنى شروط التعلم ليس فقط من حيث الأدوات والبرامج وإنما حتى من حيث الفضاء الذي يفترض أن يكون بيئة آمنة وشاملة ومؤهلة لاستقبالهم؟

مقالات ذات صلة:

أطفال المدارس بين الشارع والمجهول.. من يحاسب على الفوضى؟

السمنة تهدد صحة الأطفال والمراهقين في تونس: أرقام مقلقة ودعوات للتحرك العاجل

أطفال السودان في جحيم الحرب: اغتصاب رضّع وجرائم تهز الضمير الإنساني

هذا وتعد الصياغة الدستورية التي ألزمت الدولة بضمان هذا الحق ليست مجرد إعلان نوايا وإنما التزام قطعي يفترض أن يترجم إلى سياسات عمومية واضحة، وتمويلات فعلية وبرامج بيداغوجية متكاملة غير أن الواقع يكشف عن فجوة عميقة بين النصوص والالتزامات الميدانية  وقد أكد القانون الأساسي عدد 41 لسنة 2016 المتعلق بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة هذا الالتزام عندما نصّ في فصله 10 على أن الدولة تتخذ جميع التدابير اللازمة لتمكين الأشخاص ذوي الإعاقة من نظام تعليمي وتكويني ملائم لحاجياتهم وهو ما يفترض أن يكرس الحق في النفاذ المتكافئ إلى المؤسسات التربوية العمومية، كما أن تونس بمصادقتها على اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة عبر القانون الأساسي عدد 4 لسنة 2008 التزمت دوليا بضمان التعليم الشامل والمتكافئ والملائم وهو التزام يرتب عليها مسؤولية توفير كل الوسائل اللازمة لتحقيق هذا الحق دون أي شكل من أشكال التمييز أو الإقصاء.

ورغم هذه الترسانة القانونية المبدئية، إلا أن الواقع يفصح عن قصور عميق ومركب في السياسات العمومية حيث تتواصل معاناة الأطفال ذوي الإعاقة مع مؤسسات عمومية لا تراعي أبسط حقوقهم في التمدرس الفعلي، فكيف يمكن لطفل يعاني من إعاقة حركية أن يلتحق بالمدرسة العمومية دون أن تكون القاعات والفضاءات مجهزة هندسيا لاستقباله؟ وكيف يمكن لطفل كفيف أن يتعلم دون كتب بطريقة "برايل" أو أجهزة مساعدة؟ وكيف يمكن لطفل يعاني من صعوبة سمعية أن يتابع دروسا دون وسائل تواصل بديلة؟ وكيف يمكن لمرب لا يمتلك الحد الأدنى من التكوين في التعامل مع الإعاقة أن يؤمن لهذا الطفل حقه في التعلم؟ كل هذه الأسئلة تظل بلا إجابة في ظل سياسة عامة تكتفي بالخطابات عن الدمج دون المرور إلى التفعيل الحقيقي لهذا الدمج.

إذ أن الدمج الذي يتحدث عنه القانون والاتفاقيات الدولية لا يختزل في الحضور الجسدي للطفل ذي الإعاقة داخل قاعة الدرس، بل يشمل جملة من الشروط التربوية والبيداغوجية والنفسية والاجتماعية التي تضمن له التعلم الفعلي والتفاعل والنمو الشخصيي؛ وهنا تطرح إشكالية الفارق بين الدمج الشكلي والدمج الحقيقي، فالأول هو ما تعيشه مؤسساتنا اليوم حيث يقبل الطفل شكليا ليجد نفسه خارج نسق التعليم بسبب غياب الوسائل والتهيئة، أما الثاني فهو ما يقتضي تضافر جهود الدولة من حيث تمويل التجهيزات وتكوين الإطار التربوي وتعديل البرامج وإرساء شبكة دعم داخل المدرسة (أخصائيين نفسيين، مساعدين بيداغوجيين، أطباء...).

 وفي عمق هذا الطرح نصل إلى سؤال عميق ما معنى العدالة التربوية؟ وهل يمكن الحديث عن مساواة في غياب الاعتراف بالاختلاف؟ إن العدالة التربوية ليست مجرد وضع الجميع في نفس الظروف الشكلية، بل هي تقديم الوسائل التي تتيح لكل طفل مهما كانت وضعيته أن يتعلم وفق نسق يناسبه، فالمساواة الحقيقية ليست أن نطلب من الطفل الكفيف أن يقرأ ما لا يرى أو من الطفل الأصم أن يسمع ما لا يسمع، بل أن نوفر له الأدوات التي تمكنه من التعلم كغيره وفق خصوصيته، ومن ثم فإن رفض تهيئة المدرسة لتصبح دامجة هو شكل من أشكال العنف الرمزي ضد الأطفال ذوي الإعاقة حيث يدفعون إلى الشعور بالاختلاف السالب والإقصاء داخل الفضاء الذي يفترض أن يحتضنهم.

وهنا تظهر بوضوح الإشكالية السياسية التي تكمن في غياب الإرادة السياسية الفعلية لتطبيق نصوص القانون، إذ لو توفرت هذه الإرادة لرأينا ميزانيات موجهة لتهيئة المؤسسات وتجهيزها وبرامج تكوين إجباري للأساتذة وخططا وطنية متكاملة تربط بين وزارات التربية والصحة والشؤون الاجتماعية، بالإضافة إلى آليات رقابية مستقلة تتابع مدى التزام المدارس باحترام حقوق الأطفال ذوي الإعاقة  ولرأينا أيضا شراكات استراتيجية مع المجتمع المدني المتخصص باعتبار أن الدفاع عن حقوق هؤلاء الأطفال هو مسؤولية وطنية جماعية وليس فقط مسؤولية الأسر المعنية.

كما وأن التفكير في هذه القضية يقود إلى ضرورة وضع تصور شامل لإصلاح المنظومة التربوية في علاقتها بالأطفال ذوي الإعاقة بحيث يصبح الحق في التعليم الدامج جزءا عضويا من سياسات الدولة لا مجرد خيار إضافي، وهذا التصور يقوم على جملة من المحاور المتكاملة أبرزها إدماج الإعاقة ضمن السياسات التربوية العامة مع تخصيص ميزانية قارة للتهيئة والتجهيز مع تعديل البرامج التعليمية لتراعي الفوارق الفردية من خلال اعتماد مقاربة "التعليم للجميع" وخاصة إدراج مسألة الإعاقة كمكون أساسي في التكوين الجامعي للأساتذة، وكذلك إحداث جهاز وطني لمراقبة احترام المؤسسات التربوية لحقوق الأطفال ذوي الإعاقة مع تفعيل العقوبات اللازمة ضد كل تقصير.

لذا فإن الدولة التي تقصي جزءا من أطفالها ولا توفر لهم حقهم في التعلم كبقية زملائهم هي دولة تقصي مستقبلها ذاته لأن هؤلاء الأطفال هم جزء من الثروة البشرية الوطنية التي يجب رعايتها لا تهميشها، فالحقوق الأساسية ومنها الحق في التعليم ليست هبة من الدولة، بل هي واجب قانوني ودستوري وأي تخلف عن هذا الواجب يمثل انتهاكا صارخا للكرامة الإنسانية ومبادئ المواطنة، ومن ثم فإن معركة الدفاع عن حق الأطفال ذوي الإعاقة في التعليم ليست معركة خاصة، بل هي معركة مجتمعية من أجل العدالة والإنصاف ومن أجل بناء دولة القانون والمؤسسات.

 ختاما، الإنصاف الحقيقي للأطفال ذوي الإعاقة يبدأ من الاعتراف بهم كأطفال كاملي الحقوق ويستمر بتوفير الشروط التي تجعل من حقهم في التعليم واقعا ملموسا لا مجرد حبر على ورق، لذلك فإن أي مشروع إصلاح تربوي جاد وأي سياسات عمومية وطنية صادقة يجب أن تجعل من هذا الحق أولوية قصوى لأنه لا معنى لأي إصلاح لا يشمل جميع الأطفال دون استثناء.

آخر الأخبار

تونس: تأسيس الجامعة العامة للبلديات والمجالس الجهوية وتوزيع المسؤوليات على قيادة جديدة

تونس: تأسيس الجامعة العامة للبلديات والمجالس الجهوية وتوزيع المسؤوليات على قيادة جديدة

في اليوم العالمي للمرأة: دعوة لتشريعات أكثر إنصافًا وتمكينًا لكافة النساء والفتيات في تونس!

في اليوم العالمي للمرأة: دعوة لتشريعات أكثر إنصافًا وتمكينًا لكافة النساء والفتيات في تونس!

التحالف من أجل النادي الإفريقي يسلّم المشعل: نحو مرحلة جديدة بقيادة السوسيوس!

التحالف يسلّم المشعل للسوسيوس: وحدة الصف من أجل مصلحة النادي الإفريقي!

الحق في التعليم للأطفال ذوي الإعاقة في تونس بين الالتزام الدستوري والخذلان الواقعي

الحق في التعليم للأطفال ذوي الإعاقة في تونس بين الالتزام الدستوري والخذلان الواقعي

جدارية عملاقة في مدينة الكاف: مبادرة فنية بيئية لرفع الوعي بالحفاظ على الطبيعة

جدارية عملاقة في مدينة الكاف: مبادرة فنية بيئية لرفع الوعي بالحفاظ على الطبيعة

Please publish modules in offcanvas position.