على إيقاع جدل سياسي وديني متشعب تعيش الساحة التونسية حالة من الحراك الفكري والمجتمعي، والتي تأتي تفاعلا مع مبادرة رئيس الجمهورية بشأن مشروع الإصلاح التشريعي الذي يمنح المرأة المزيد من الحقوق خاصة المتعلقة منها بحق اختيار الزوج وتوسيع مجال الحريات الذاتية.
تونس - على الرغم من تصدر مسألة المساواة في الميراث محور النقاشات والآراء المتبادلة بين مختلف الفاعلين من الأكاديميين والباحثين والمختصين في الشأن الديني، إلا أن مسألة تعديل القوانين المنظمة للأحوال الشخصية بهدف السماح للتونسيات بالزواج من غير المسلمين أثارت بدورها جدلا كثيرا ضمن سلسلة من التأويلات والنقاشات المتشعبة.
المقترح أثار ردود فعل متباينة بين قوى وهياكل المجتمع المدني في تونس؛ فبينما رحبت العديد من الجهات والمنظمات الحقوقية التي تعنى بالحريات بالمبادرة على اعتبارها تصحيحا لوضع تشريعي مخالف لمفهوم مدنية الدولة، شددت تيارات أخرى على رفض المقترح انطلاقا من اعتبارات دينية قاطعة واعتبارا لحساسية المسألة ولما تثيره من استتباعات دينية واجتماعية وأخلاقية.
واعتبر لفيف من القوى المدنية أن المشروع يعد انتصارا واستكمالا لمشروع تحرير المرأة التونسية من ربقة التمييز الديني وتتويجا لعدة تحركات انطلقت في مراكمة نضالاتها بعد الثورة.
وكان ما يقرب عن 60 جمعية حقوقية تونسية قد طالبت بإلغاء الإجراء الصادر عن وزارة العدل والذي يحظر زواج التونسيات المسلمات من غير المسلمين، باعتباره “يضرب حقا أساسيا لأي كائن بشري وهو الاختيار الحر للزوج”، معتبرة “أن هذا المنع يسبب ألما للآلاف من التونسيات وأسرهن، المحرومات من حقهن الأساسي”.
ولا تعتبر مجلة الأحوال الشخصية الصادرة بعيد الاستقلال سنة 1956 اختلاف الديانة بين الطرفين مانعا قانونيا للزواج، باعتبار أن بنود القانون نصت بشكل واضح على أن عقد الزواج هو إجراء مدني بحت مستقل عن السياق الشرعي.
ويشير المراقبون إلى أن أمرا ترتيبيا صادرا عن وزير الداخلية في تونس سنة 1973 ولا يزال ساريا إلى اليوم يمنع ضباط الحالة المدنية بالبلديات وعدول الإشهاد من إبرام عقود زواج المواطنات التونسيات المسلمات بغير المسلمين إلا في صورة ثبوت إشهار إسلامهم لدى مفتي الجمهورية.
وأكد شكري الذويبي رئيس منظمة 23-10 في حديث لـ”العرب” أن القانون المتعلق بعقد الزواج في شكله الحالي يتضارب مع الحريات الشخصية وحرية الضمير التي كفلها الدستور، كما يتعارض مع مبدأ فصل الممارسة المدنية عن الشأن الديني.
واعتبر رئيس جمعية 23-10 أن الجدل الحاد الذي شاب هذه المسألة من جانب التيار المحافظ يكشف عن قراءة ضيقة للمسألة الدينية وقصور في تأويل النص الديني من خلال الإصرار على “تثبيت البعد القطعي لتحريم زواج المسلمة بغير المسلم”.
وأشار الذويبي إلى أن التشريع الديني لا يتعارض على مستوى التفسير والفهم مع زواج المسلمة من الكتابيين الذين يعتبرون من أصحاب العقائد التوحيدية السماوية.
وحول المخاوف بشأن الآثار الاجتماعية المترتبة عن فتح المجال أمام هذه الزيجات، اعتبر الذويبي أن الحديث عن التأثيرات والانعكاسات التي قد تطرأ على التركيبة الاجتماعية في تونس من باب التهويل، مشيرا إلى أن زواج التونسيات بالأجانب من غير المسلمين لا يرتقي إلى مستوى ظاهرة التي قد تؤثر على البيئية الاجتماعية أو الثقافية.
وعلى الطرف الآخر، يقابل المشروع برفض حاد من جانب التيارات المحسوبة على الجماعات المحافظة وخاصة منهم نقابات الأئمة وعدد من مشائخ الزيتونة والعلماء والدعاة المقربين من التيار الإسلامي.
وأصدر عدد من علماء الزيتونة والشيوخ يتقدمهم كل من حمدة سعيد مفتي الديار التونسية الأسبق المحسوب على حركة النهضة ونورالدين الخادمي وزير الشؤون الدينية السابق خلال حكم الترويكا بيانا بعنوان “رد علماء تونس على الدعوة الرئاسية للمساواة في الإرث وزواج المسلمة بغير المسلم”.
وشدد البيان على رفض المشروع على اعتبار أن إبرام زواج المسلمة في هذه الحالة يعتبر “جريمة زنا بينة” ما يستوجب التفريق بينهما، مشيرا إلى “أنّ الفقه الإسلامي نصّ على أنّ المرأة المسلمة إذا ارتبطت برجل كافر فعليها أن تعقد عقدا جديدا إذا أسلم، لأنّ العقد الأوّل باطل”.
وبيّن غفران حسايني الباحث في الحضارة والفقه الإسلامي بجامعة الزيتونة في تصريح لـ”العرب” أن تحليل زواج المسلمات من أصحاب الديانات السماوية الأخرى اجتهاد غير موفق بالنظر إلى الاختلافات العقائدية في مفهوم التوحيد والثوابت ومباحث الإيمان، وذلك بحسب ما أقره الملتقى الإسلامي المسيحي المنعقد ببيت الحكمة بتونس سنة 1988.
وأشار حسايني إلى أن تأويل النص القرآني بحصر التحريم في المشركين غير المؤمنين أصلا بمبدأ التوحيد يتناقض مع سياق آيات أخرى تحرم بشكل قاطع زواج “المحصنات والمؤمنات من أهل الكتاب والكافرين”.
واعتبر حسايني أن إقرار هذا التحوير التشريعي سيطرح بالضرورة إشكاليات عديدة تتعلق بالخروج عن السياق العام الاجتماعي والديني والعرفي، بما يثير حساسيات شديدة بالنسبة إلى طبيعة المجتمع التونسي المحافظ.
ولفت الباحث التونسي في الحضارة والفقه الإسلامي إلى أن التشبث برفض هذا التعديل لا يعني ضرورة تكريسا للتداخل بين المسألة الدينية والقيم المدنية، مؤكدا أن الدولة المدنية لا تنسلخ عن ثقافة شعبها بل تحافظ عليها، مشيرا إلى الدور الذي تلعبه الكنيسة الأورثوذكسية على سبيل المثال في تشكيل هوية وثقافة الشعب الروسي إلى درجة التماس مع الشأن السياسي على الرغم من الطبيعة العلمانية للدولة.