الجماهير التونسية نجحت في الترويج للسياحة والثقافة والملابس التراثية رغم الخروج الباهت لمنتخبها من الدور الأول في مسابقة كأس العالم لكرة القدم المقامة في روسيا.
تونس– عندما سافر الآلاف من التونسيين إلى المدن الروسية بهدف مؤازرة منتخب بلادهم في مونديال 2018 لكرة القدم، لم ينس الكثير منهم اصطحاب الطربوش التقليدي “الشاشية” التي سرعان ما تحولت إلى ظاهرة فولكلورية في روسيا.
ومن خلال تسويق الطربوش التونسي في أكبر تظاهرة رياضية عالمية، نجح التونسيون في الواقع في أن يمنحوا خدمة جليلة إلى صناع هذا اللباس التقليدي الذي يواجه صعوبات في بلده الأم، رغم ارتباطه بالهوية الثقافية التونسية.
ولكن بشكل غير متوقع تحول الطربوش إلى ما يشبه الحمى التي اجتاحت المشجعين الروس والذين تهافتوا على شرائه بأي ثمن أو على الأقل التقاط الصور التذكارية به مع المشجعين التونسيين في عدد من المدن المضيفة للمونديال وخاصة العاصمة موسكو.
ولم يتردد المشجع التونسي هشام الهيف في جلب نحو 200 “شاشية” إلى روسيا لبيعها إلى المشجعين من مختلف الجنسيات وليس إلى المشجعين التونسيين فقط. ونالت الشاشية إعجابا هائلا وبلغ الإقبال عليها أكثر من المتوقع.
قالت الصحافية هناء سلطاني التي شاركت في رحلات الجمهور التونسي إلى روسيا، “نجح الجمهور في أن يروج لتونس كوجهة سياحية من خلال توزيع مطويات تحمل صورا لمواقع أثرية وتاريخية وجلب اهتمام الجميع في كامل شوارع موسكو وساحتها الكبرى وخاصة منها الساحة الحمراء”.
وتابعت هناء “الجمهور كان مروجا بارعا للباس التقليدي ولا سيما الشاشية والبلغة (حذاء تقليدي) والجبة. يمكن ملاحظة أن اللباس التونسي قد نجح في اكتساح شوارع موسكو وباقي المدن الروسية”.
لم يكن هذا حال الشاشية قبل اجتياحها روسيا في معقلها بـ”سوق الشواشين” المتواجد بقلب المدينة العتيقة بتونس، حيث يشكو صناع الطربوش من حالة كساد منذ سنوات بسبب تراجع الطلب عليه.
وبخلاف المناسبات الدينية والأعياد، خاصة إذا ما تزامنت مع فصل الشتاء، فإن اقتناء الشاشية أصبح محدودا ومقتصرا على بعض العائلات التقليدية المحافظة والشيوخ ورجال الدين.
وبسبب الطلب المحدود، فإن العشرات من محلات صناعة الشاشية التي ازدهرت منذ عشرينات القرن الماضي في المدينة العتيقة أقفلت أبوابها في سوق الشواشين، وأصبح اليوم عدد الورشات لا يتعدى خمس أو ست ورشات وبعض الباعة.
وتعد عائلة الطرودي من بين العائلات القليلة التي احتفظت بورشتها ومهنة تصنيع الشاشية منذ ثلاثينات القرن الماضي، لتتعاقب عليها أجيال حتى اليوم.
يقول محمد الطرودي مفسرا سبب تراجع الطلب على الشاشية، “الأسعار أصبحت مرتفعة وكلفة المواد الخام بدورها مرتفعة، لذلك لم تعد الشاشية أولوية في هندام المواطنين”. ومع ذلك يعترف الطرودي بأن ورشته لا تزال متماسكة ماليا بل وتدر ربحا مهما من خلال المبيعات التي تناهز 600 شاشية في الأسبوع توجه أغلبها إلى الأسواق الخارجية.
ويستطرد الطرودي قائلا “يأتي السياح باستمرار إلى سوق الشواشين ويعجبون بالشاشية، لكن النسبة الأكبر من المبيعات توجه أكثر إلى التصدير باتجاه ليبيا والجزائر ومالي والنيجر ونيجيريا وبعض الأسواق الأفريقية الأخرى”.
ولعل ما يزيد من كلفة صناعة الشاشية اليوم هو المراحل المضنية التي ترافق عملية تصنيعها التقليدية قبل أن تأخذ شكلها الدائري بلونها الأحمر القرمزي، فضلا عن العدد القليل من الحرفيين الذين تمسكوا بهذه المهنة.
بحسب ما دأب عليه الحرفيون الأوائل، يتم في مرحلة أولى اختيار صوف مستورد بجودة عالية ثم يتم غسله وتجفيفه ثم مشقه وغزله حتى يصل إلى أيادي الحائكات لتقوم بحياكته في شكل قبعة واسعة، تسمى “كبوس″.
بعد هذه المرحلة، يقع تلبيد “الكبابيس″ باستعمال الماء و الصابون إلى أن تأخذ شكل قلنسوة بنسيج ضيق لا يظهر سردات الحياكة الأولية. عندها تخضع القلنسوة إلى عملية مشق تهدف إلى جعلها وثيرة ولينة. بعدها تصبغ الشاشية وتخضع لعملية مشق جديدة، وفي الأخير يخيط الحرفي رمز “النيشان” داخل الشاشية بواسطة رسم خيطي أسود قبل تصديرها وتسويقها إلى عشاقها.
وليس من السهل عموما امتهان صناعة الشاشية، إذ يقع اختيار الشواشي (صانع الشاشية) بعناية فائقة، حيث يخضع لاختبار تشرف عليه لجنة مختصة تتبع غرفة الشواشين، لكن في العادة يحترف هذه المهنة أبناء العائلات العريقة من أصيلي مدينة تونس العتيقة.
وفي كل الحالات يدين الحرفيون لازدهار هذه الصناعة في ما مضى بتونس، إلى الحرفيين الأجداد الذين قدموا من الأندلس بعد سقوط غرناطة عام 1492، إذ يعود لهم الفضل في وضع اللبنات الأولى لصناعة شاشية بمواصفات تونسية.
كما يعود الفضل كذلك إلى العائلات البرجوازية العريقة أصيلة مدينة تونس العتيقة، في ترسيخ هذه الصناعة والمحافظة عليها جيلا بعد جيل نظرا للمكانة المرموقة التي يحظون بها داخل المجتمع التونسي.
يقول محمد الطرودي “تمر الشاشية بمرحلة صعبة لكن أثبت المونديال والعديد من الاحتفالات الثقافية، أن هذا الطربوش التونسي جزء عزيز من هويتنا لا يمكننا الاستغناء عنه”.
ويحسب للطرودي وغيره من الحرفيين المعاصرين أنهم نجحوا في جعل الشاشية أكثر التصاقا بروح العصر، إذ تخلت عن مسايرة الفوارق الاجتماعية، حيث يعمل الحرفيون على استقطاب فئة الشباب عبر تصنيع شاشية أقل كلفة، لكن الأمر يحتاج إلى المزيد من التسويق.
ومع ذلك فإن الباعة في سوق الشواشين والمدينة العتيقة يدينون اليوم بانتعاش مبيعات الشاشية، إلى الجمهور التونسي الذي روج بشكل فعال للطربوش في ربوع روسيا وأمام كاميرات العالم.
وقال عمر الذي كان من بين المشجعين العائدين من روسيا، “الروس انبهروا بالشاشية وباحتفالات التونسيين، قدمنا خدمة مجانية لقطاع السياحة والصناعات التقليدية في بلادنا تعجز عن القيام بها مؤسسات الدولة لسنوات”.
وأضاف عمر “بغض النظر عن عدم التوفيق الكروي، يجب أن نعتز بما نملك من تراث نجح في أن يجلب انتباه الجميع″.