تحليل من إعداد عبد الحفيظ حساينية
في تطوّر جديد يعكس تعقيدات المشهد الميداني والسياسي في قطاع غزة، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، يوم الجمعة 17 أكتوبر 2025، عن شروع الجيش في وضع علامات صفراء واضحة على طول ما يُعرف بـ"الخط الأصفر"، الذي يحدّد مناطق انتشار القوات الإسرائيلية بعد اتفاق وقف إطلاق النار الأخير.
ورغم أن الإعلان جاء في صيغة “إجراء ميداني”، إلا أنّ أبعاده السياسية والأمنية تتجاوز مجرد تحديد نطاق العمليات، إذ يمثل “الخط الأصفر” في جوهره محاولة جديدة لـفرض أمر واقع جغرافي وعسكري في القطاع، على نحو يعيد إلى الأذهان سياسات “المناطق العازلة” التي اعتمدها الاحتلال في تجارب سابقة، خاصة في جنوب لبنان وغزة خلال التسعينات.
1. أبعاد عسكرية ميدانية
من الناحية العسكرية، تسعى إسرائيل من خلال هذا الخط إلى تحويل الهدنة الهشة إلى واقع ميداني دائم، يمنح قواتها حرية الحركة ويُبقي الفصائل الفلسطينية على مسافة بعيدة من حدود انتشارها. وبذلك، يصبح “الخط الأصفر” منطقة تماس بالنار، حيث تُمنع أي حركة فلسطينية في محيطه تحت طائلة الاستهداف الفوري.
وتشير المعطيات إلى أنّ هذا الخط يمتد على نحو 53 بالمئة من مساحة قطاع غزة، أي أكثر من نصفه، معظمها مناطق مفتوحة وخالية من الكثافة السكانية، وهو ما يكرّس عمليًا تقسيماً ميدانياً جديداً بين شمال القطاع وجنوبه.
2. مناورة سياسية تحت غطاء أمني
سياسيًا، يمثل هذا الإجراء مناورة إسرائيلية دقيقة تهدف إلى تثبيت مكاسب ميدانية دون إعلان رسمي عن “منطقة أمنية”، لتفادي الضغوط القانونية والدبلوماسية. فـ"الخط الأصفر" يمنح تل أبيب تحكماً غير مباشر في عمق القطاع، مع الإبقاء على مسؤولية إدارته بيد السلطة المحلية أو الوسطاء، بما يخفف عنها أعباء الاحتلال المباشر.
ويرى محللون أنّ هذه الخطوة تأتي في سياق إعادة ترتيب المشهد الغزّي بعد الحرب، ضمن سياسة تقوم على "إدارة الهدوء بالقوة" و"ضبط القطاع بالنار"، وهو نهج تحاول إسرائيل من خلاله تحويل الهدنة إلى أداة سيطرة.
3. تداعيات قانونية وإنسانية
من منظور القانون الدولي، تمثل إقامة هذا الخط انتهاكًا صريحًا لسيادة الأراضي الفلسطينية وتجاوزًا لاتفاقات وقف إطلاق النار التي رعتها أطراف دولية. كما أنّ سقوط شهداء فلسطينيين خلال الأيام الماضية بزعم “تجاوز الخط” يُعدّ مؤشراً خطيراً على هشاشة الوضع الميداني واحتمال انزلاقه مجددًا نحو التصعيد.
4. الموقف الفلسطيني
في المقابل، تؤكد الفصائل الفلسطينية أنّها لن تعترف بأي حدود تُفرض بالقوة، معتبرة أنّ الخط الأصفر ليس سوى “ترسيم احتلالي” جديد، وأن أي محاولة لتكريسه ستواجه برفض ومقاومة.
5. بين هدنة مؤقتة وحدود دائمة
في المحصلة، يعكس “الخط الأصفر” محاولة إسرائيلية لإعادة هندسة الجغرافيا الأمنية للقطاع تحت غطاء الترتيبات المؤقتة. فهو ليس مجرد خط على الأرض، بل مشروع سياسي في ثوب عسكري، يسعى إلى تحويل الهدنة إلى حدود، والسيطرة إلى واقع يُفرض بالرصاص لا بالمفاوضات.
غزة اليوم أمام مفترق طرق تاريخي: فإما أن تُحافظ على وحدة جغرافيتها عبر المقاومة الدبلوماسية والميدانية، أو أن تنزلق إلى مرحلة جديدة من التجزئة والاحتواء الصامت.