تحليل سياسي – إنساني من إعداد عبد الحفيظ حساينية
بين أرقام الأمم المتحدة وتصريحات مسؤولي الإغاثة، تتكشف يوماً بعد آخر حقيقة الهدنة الهشّة في قطاع غزة: وقفٌ لإطلاق النار لا يوقف الجوع، وهدوءٌ ميدانيّ يخفي أزمة إنسانية متفجرة، تهدد حياة الملايين في الشمال المحاصر.
فمنذ إعلان الهدنة، تتحدث الأمم المتحدة عن دخول نحو 560 طنًا من المساعدات الغذائية يوميًا، لكن الواقع الميداني يُظهر أنّ هذه الكميات لا تصل إلى المناطق الأكثر تضررًا، وعلى رأسها مدينة غزة وشمال القطاع، حيث تتفشى المجاعة ويُسجّل نقصٌ حاد في المواد الأساسية.
1. هدنة بلا ممرات إنسانية
الهدنة، التي كان يفترض أن تُشكّل فرصة لإعادة ضخّ المساعدات، تحوّلت إلى مأزق إداري ولوجستي. فالمعابر الشمالية — زيكيم وإيريز (بيت حانون) — لا تزال مغلقة، فيما تُركت آلاف العائلات في مواجهة الموت البطيء وسط الدمار.
هذا الواقع يكشف أن وقف النار لم يُترجم إلى وقف للحصار، بل أعاد إنتاج الأزمة الإنسانية في شكلها الأشد قسوة، إذ تواصل إسرائيل التحكم في مسارات الإمداد وتوزيع المساعدات من خلال وحدة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية في المناطق (كوغات)، ما يجعل كل شاحنة إغاثة خاضعة لحسابات سياسية وأمنية معقدة.
2. أرقام بلا حياة
يُشير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية إلى دخول أكثر من 950 شاحنة مساعدات يوم الخميس، لكن هذه الأرقام لا تعني شيئًا حين تبقى الشماليات محاصرات، والأطفال بلا غذاء، والطرقات مدمرة أو مفخخة.
يقول أحد موظفي الإغاثة الميدانيين: “الأرقام تُرضي المؤتمرات الدولية، لكنها لا تُشبع الجوعى في جباليا وبيت حانون”.
3. البُعد السياسي للأزمة
ما يجري في غزة ليس مجرد عجزٍ لوجستي، بل هو تجسيد لصراع الإرادات السياسية. فالمساعدات، بدل أن تكون جسر إنقاذ، أصبحت ورقة تفاوض في أيدي الأطراف المتحاربة، وأداة ضغط في حسابات إقليمية ودولية أكبر من الميدان نفسه.
ويخشى مراقبون أن يتحول الوضع الإنساني إلى وسيلة ابتزاز سياسي، يُراد منها فرض واقع جديد على الأرض أو تليين مواقف الفصائل الفلسطينية في أي مفاوضات قادمة.
4. المجتمع الدولي بين التنديد والعجز
رغم تحذيرات الأمم المتحدة وبرنامج الأغذية العالمي، فإن المجتمع الدولي يبدو عاجزًا عن فرض ممرات إنسانية آمنة أو آلية مستقلة لتوزيع المساعدات. وهنا يظهر التناقض الصارخ: نفس الدول التي تندد بالمجاعة، هي التي تملك النفوذ الكفيل بفتح المعابر، لكنها تكتفي بالبيانات والدعوات.
5. غزة… الجوع في زمن الهدنة
في المحصلة، تحوّلت غزة إلى مختبر للضمير الدولي: فبينما تتحدث التقارير عن هدنة، يعيش مئات الآلاف تحت خط الجوع، في ظلّ حصار مضاعف وطرقات مقطوعة ووعود مؤجلة.
الهدنة الحالية لم تفتح أبواب الحياة، بل علّقت الموت على الحدود، في انتظار قرارٍ دوليّ يعيد للإنسان قيمته قبل فوات الأوان.



