منذ عقود، ارتبط اسم بلاد الرافدين باللقب الأبدي: "مهد الحضارة". غير أنّ اكتشافات أثرية حديثة في قلب أوكرانيا قد تقلب هذا التصوّر رأساً على عقب، بعدما كشفت التنقيبات عن مدن عملاقة عمرها آلاف السنين… مدن قد تكون أقدم من بابل وأور.
مدن بلا ملوك… ولا معابد!
الباحثون الذين قادوا التنقيبات أعلنوا عن العثور على مستوطنات تعود إلى ثقافة كوكوتيني – تريبيلية، مؤرخة إلى نحو 4000 قبل الميلاد.
هذه المواقع المذهلة امتدت على 320 هكتاراً، واحتوت على تنظيم دائري غريب ومناطق جماعية، مع تقديرات سكانية تراوحت بين 5 آلاف و15 ألف نسمة.
لكن المفاجأة لم تكن في الحجم فقط، بل في غياب كل ما نعرفه عن المدن القديمة:
- لا قصور
- لا معابد
- لا سجلات مكتوبة
- ولا نخب ملكية
وكأنها حضارة جماعية قامت بلا ملوك ولا كهنة ولا بيروقراطية، في قطيعة تامة مع النموذج الرافديني المعروف.
طقوس غامضة… حرق المنازل عمداً!
واحدة من أكثر الظواهر إثارة في هذه الاكتشافات هي الحرق المتعمد للمنازل.
لماذا كان السكان يحرقون بيوتهم بأيديهم؟
هل كان ذلك جزءاً من طقوس دينية غامضة؟
أم استراتيجية لإعادة بناء المجتمع بشكل دوري؟
أسئلة تبقى بلا أجوبة، لكنها تفتح الباب أمام فرضيات جديدة حول طبيعة الحياة الروحية والاجتماعية في تلك الحقبة.
حضارة بلا هرم… مجتمع يقوم على المساواة؟
يرى علماء الآثار أن غياب الهياكل الهرمية قد يعني أن هذه المجتمعات عاشت وفق مبدأ المساواة، ونجحت في بناء مدن كبرى من دون الحاجة إلى أنظمة دولة مركزية.
هذا الاكتشاف يضعنا أمام معادلة جديدة: هل يمكن للحضارة أن تزدهر بلا سلطة عليا؟
الحضارة ليست خطاً مستقيماً… بل فسيفساء
لطالما اعتُقد أن نشوء المدن الأولى بدأ من نقطة واحدة في بلاد الرافدين، ومنها انطلقت شرارة التاريخ. لكن هذه الأدلة الأوكرانية تقول شيئاً مختلفاً:
الحضارة لم تولد في مكان واحد، بل انبثقت في أكثر من بقعة من العالم بشكل مستقل، كل منها سلك مساره الخاص نحو التعقيد والتنظيم.
وبذلك، تصبح قصة الحضارة لوحة فسيفسائية متعددة المسارات، لا خطاً واحداً. وقد تكون مدن أوكرانيا القديمة إحدى أقدم وأهم الخيوط المنسية في هذا النسيج البشري المذهل.