في تونس، تتكشف ظاهرة صامتة لكنها جارحة: رجال مطلقون يكتفون بدفع النفقة التي أقرها قاضي الأسرة، ثم يغلقون الباب على أنفسهم مطمئنين إلى أنهم "أدّوا ما عليهم". لكنهم يتناسون أنّ النفقة ليست مجرد رقم في حكم قضائي، بل هي حياة يومية وكسوة تليق بالأعياد، وحق في التعليم دون إذلال، ورعاية نفسية توازي الرعاية المادية.
الشرع واضح… ولكن أين الضمير؟
الإسلام لم ينظر إلى النفقة باعتبارها مبلغًا يُسدد قهرًا، بل جعلها عبادة وقربة.
قال تعالى: «وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف» [البقرة: 233].
والمعروف في الشرع ليس الحد الأدنى من الإنفاق، بل ما يحقق الكرامة ويصون النفس من الشعور بالحرمان.
لكن بعض الآباء حوّلوا النفقة إلى آلية انتقام من الزوجة السابقة، فيحاسبون الدنانير كما يُحاسب التاجر زبونه، غير آبهين بدمعة طفل لم يجد حذاء جديدًا في العيد، أو بخيبة تلميذ اضطر لطلب الكراس من زملائه. أليس هذا من صميم تضييع الأمانة التي حذّر منها الشرع؟
القانون التونسي… نصوص تُفرغ من مضمونها
القانون التونسي، عبر مجلة الأحوال الشخصية (الفصول 46 و47 و53 مكرر)، حمّل الأب مسؤولية شاملة: الغذاء، الكساء، التعليم، العلاج، بل وحتى المصاريف الاستثنائية التي يفرضها العرف.
لكن الممارسة اليومية تكشف ثغرة خطيرة: كثير من الآباء يلتزمون شكليًا بالحد الأدنى، ويتركون التفاصيل الجوهرية – كسوة العيد، العودة المدرسية، المستلزمات الطارئة – في فراغ قانوني يُحوّل الأبناء إلى ضحايا تفاهمات ناقصة أو خصومات مزمنة.
وعندما تُرفع القضايا، تتعطل العدالة ببطء الإجراءات أو ضعف المتابعة، فيتحول النص القانوني إلى حبر على ورق، بينما تستمر المأساة في واقع الأطفال.
خلفية نفسية واجتماعية
إنكار الكساء أو مستلزمات الأعياد والمدارس ليس مجرد عجز مادي. في حالات كثيرة، هو فعل عقابي متعمد، يستعمل فيه بعض الآباء أبناءهم كورقة ضغط على طليقاتهم.
في اللاوعي الجمعي، هناك من يعتبر أنّ "الأم مسؤولة بعد الطلاق"، بينما الأب يرفع شعار: "أنا دفعت النفقة، فليتحمل الآخر الباقي". هذه العقلية لا تقتل فقط روح المسؤولية، بل تنزع من الأبناء شعورهم الطبيعي بأنّ لهم أبًا يظلّ سندًا لهم مهما تغيّرت الظروف.
بين النص والواقع: جرح يتوارث
القانون والشرع متفقان على أنّ الأبوة لا تُختزل في ورقة طلاق أو في حوالة بريدية شهرية. الأب الذي يتنصل من كسوة العيد أو من حقيبة مدرسية إنما يزرع في وجدان أبنائه مرارة مضاعفة: حرمان مادي، وحرمان عاطفي أشد قسوة.
ومثل هذه التجارب تُورّث جيلًا ممزقًا، يرى في الأبوة قسوة لا رحمة، وفي القانون عجزًا لا عدالة.
إنّ الآباء المطلقين الذين يحصرون الأبوة في نفقة إجبارية يجرّدون أنفسهم من أسمى معنى للأبوة: الحنان والرعاية.
والدولة، بمؤسساتها القضائية والاجتماعية، مطالَبة اليوم بأن لا تكتفي بالأحكام الورقية، بل أن تُعيد الاعتبار لحق الطفل في حياة كريمة شاملة، لا في نفقة مبتورة.
فالأب الذي يتهرّب من كسوة العيد، أو يحرم أبناءه من أدوات العودة المدرسية، لا يخالف القانون فقط، بل يخون الأمانة التي حمّلها له الشرع، ويدمّر مستقبلًا كان يمكن أن يكون أكثر إنصافًا ورحمة.