رغم مرور سنوات على إقرار تونس جملة من القوانين والتشريعات التي تهدف إلى حماية حقوق الطفل وضمان نشأته في بيئة سليمة ما تزال ظاهرة تشغيل الأطفال في القطاع الفلاحي قائمة بشكل لافت في العديد من المناطق الريفية، ففي مشهد يتكرر كل موسم ترى أطفالا صغارا لم يبلغوا بعد السن القانونية يتنقلون بين الحقول حاملين أدوات العمل يسقون المزروعات أو يشاركون في الحصاد تحت شمس حارقة أو برد قارس مقابل أجور زهيدة بالكاد تكفي لتغطية حاجياتهم الأساسية أو لتدعيم موارد أسرهم الفقيرة، وهكذا يجد هؤلاء الصغار أنفسهم مضطرين للتخلي عن طفولتهم باكرا في وقت كان من المفترض أن يقضوه في المدرسة أو في فضاءات اللعب.
وإذا كان القانون التونسي واضحا في منع تشغيل الأطفال، فإن الممارسة تكشف عن فجوة واسعة بين النصوص والواقع، فمجلة الشغل تنص في فصلها 53 على أنه لا يجوز تشغيل الأطفال قبل بلوغهم سن السادسة عشرة إلا في أعمال خفيفة لا تمس بصحتهم أو نموهم ولا تعيق مواظبتهم المدرسية، كما يمنع الفصل 58 تشغيل من هم دون الثامنة عشرة في الأعمال الشاقة أو الخطيرة أو التي قد تعرض سلامتهم للخطر، فضلا عن ذلك تؤكد التشريعات أن أي مخالفة لهذه القواعد تعرض المشغلين لعقوبات مالية وفق الفصل 234 من نفس المجلة، وعلى المستوى الدولي التزمت تونس منذ منتصف التسعينات بالاتفاقيات الأممية الخاصة بعمل الأطفال ومنها اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 138 حول الحد الأدنى للسن والاتفاقية رقم 182 حول أسوأ أشكال عمل الأطفال، غير أن هذه النصوص تبقى حبرا على ورق في ظل ضعف الرقابة وتواصل استغلال الأطفال في الفلاحة.
وتتعمق الأزمة حين نبحث في أسباب الظاهرة فالفقر أولا يعد العامل الأبرز إذ تعيش آلاف العائلات الريفية على هامش الدورة الاقتصادية وتعتمد بشكل شبه كامل على الفلاحة كمورد رزق أساسي، وفي ظل ضعف دخل الأولياء وارتفاع نسب البطالة تتحول أجرة الطفل اليومية التي لا تتجاوز غالبا 10 دنانير إلى مصدر دعم لا يمكن الاستغناء عنه، وعليه لا ترى كثير من العائلات في إشراك الطفل بالعمل استغلالا بل مساهمة ضرورية في مواجهة صعوبات الحياة.
غير أن الفقر ليس العامل الوحيد بل يأتي الانقطاع المبكر عن الدراسة ليزيد الطين بلة، فالأطفال الذين يغادرون المدرسة قبل الخامسة عشرة سواء بسبب ضعف النتائج أو بعد المسافة أو سوء ظروف التعليم في الأرياف يجدون أنفسهم دون بدائل حقيقية، من جهة أخرى ومع غياب برامج تكوين مهني مبكرة أو فضاءات شبابية تستوعبهم يصبح العمل في الفلاحة الخيار الوحيد المتاح، بالتالي يعاد إنتاج نفس الحلقة المفرغة طفل يترك الدراسة ليعمل ثم يصبح شابا محدود الفرص ثم رب أسرة يعاني من الفقر ويدفع بدوره أبناءه إلى نفس الطريق.
وإذا نظرنا إلى النتائج المترتبة عن الظاهرة تتضح خطورتها أكثر فأكثر، فالعمل لساعات طويلة تحت أشعة الشمس أو في ظروف مناخية قاسية وحمل الأثقال والتعامل المباشر مع المبيدات الزراعية كلها عوامل تترك آثارا جسدية ونفسية عميقة، وقد سجلت تقارير طبية في ولايات مثل جندوبة وسيدي بوزيد إصابات متكررة بأمراض تنفسية وجلدية نتيجة المبيدات فضلا عن مشاكل في النمو وتشوهات في العمود الفقري بسبب المجهود البدني المبكر، وإضافة إلى الأضرار الصحية فإن الطفل العامل يفقد تدريجيا معنى الطفولة كمرحلة للعب والاكتشاف ليصبح أسير الشعور بالمسؤولية والحرمان وهو ما ينعكس سلبا على توازنه النفسي والاجتماعي في المستقبل.
وفي مقابل هذا الواقع القاسي تبدو آليات المراقبة ضعيفة وغير فعالة، فمراقبين العمل التي يفترض أن تراقب المشغلين تعاني من نقص في الموارد البشرية واللوجستية خصوصا في المناطق الداخلية، فضلا عن ذلك فإن أغلب العمل الفلاحي يتم خارج الأطر المنظمة وهو ما يجعل المراقبة شبه مستحيلة وحتى حين ترصد مخالفات تبقى العقوبات المالية غير رادعة مقارنة بالأرباح المتأتية من تشغيل اليد العاملة الرخيصة.
ومع قصور الدولة في فرض القوانين يبرز دور المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية، فقد دعت جمعيات عديدة إلى اعتماد مقاربة شاملة لا تقتصر على الردع القانوني بل تشمل أيضا سياسات اجتماعية لدعم الأسر الفقيرة حتى لا تضطر إلى دفع أبنائها نحو العمل، وعلى هذا الأساس يطرح خيار التوسيع من دائرة المنح الاجتماعية وتمويل المشاريع الصغرى وإيجاد فرص عمل بديلة للأولياء بما يسمح بإبقاء الأطفال في مقاعد الدراسة، ومن جهة أخرى يظل دور المدرسة محوريا إذ أن تحسين ظروف التعليم وتوفير النقل المدرسي وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للتلاميذ المهددين بالانقطاع كلها عوامل كفيلة بالحد من الظاهرة.
وهكذا، يكشف ملف تشغيل الأطفال في الفلاحة عن تناقض صارخ بين نصوص قانونية متقدمة تضع تونس في مصاف الدول الملتزمة بالمواثيق الدولية وواقع يومي يضع آلاف الأطفال في مواجهة ظروف غير إنسانية، ومن ثم يفرض السؤال نفسه بإلحاح إلى متى سيبقى القانون بعيدا عن التنفيذ الفعلي؟ وإلى متى ستظل الطفولة في الأرياف رهينة للفقر والتهميش؟
في الختام، تعد حماية الطفولة لا فقط مجرد شعار سياسي ولا ترف اجتماعي لكنها استثمار استراتيجي في مستقبل تونس، فالطفل الذي يستنزف اليوم في العمل الشاق سيصبح غدا شابا منهكا محدود الفرص ورب أسرة عاجزا عن الخروج من دائرة الفقر وبالتالي فإن كسب معركة حماية الطفولة هو في الجوهر كسب لمعركة التنمية بأسرها لأن مستقبل البلاد يبنى من خلال أطفالها لا من خلال استنزافهم في الحقول.