يواجه القطاع العمومي التونسي تحديات متصاعدة تتعلق بالحوكمة والفساد والمخاطر التشغيلية والمالية الأمر الذي يستدعي اعتماد منهجيات علمية واستباقية لتعزيز جودة الأداء وضمان المساءلة، ومن هذا المنطلق مظمت جمعية أكسيا دورة تكوينية تحت إشراف السيد عادل غزي رئيس الجمعية ومراقب عام ورئيس قسم التدقيق بالهيئة العامة لمراقبة المصاريف، ركزت على تقنيات تحديد وتقييم المخاطر ورسم خريطة المخاطر بهدف تزويد المشاركين بالمعرفة والأدوات العملية للتعامل مع المخاطر بشكل استباقي ومنهجي، ومن ثم لم تقتصر على الجانب النظري بل دمجت جلسات عملية سمحت بتطبيق الأساليب الحديثة في تحليل المخاطر وربطها بالاستراتيجية المؤسسية.
وتعتمد هذه الجهود على إطار قانوني متكامل أبرزه القانون الأساسي رقم 59 لسنة 2017 المتعلق بهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد الذي يضمن استقلالية الهيئة ويمنحها صلاحيات واسعة لمراقبة مؤسسات الدولة، وبالإضافة إلى ذلك يشمل القانون حماية المبلغين عن الفساد ما يوفر آلية فعالة لتشجيع الإبلاغ عن التجاوزات دون مخاطر الانتقام وبالتالي ربط الرقابة الداخلية بالإبلاغ الاستباقي وهو ما يعزز دقة تقييم المخاطر وفاعلية الإجراءات المتخذة، ومن ثم فإن هذه القوانين تمثل الركيزة الأساسية التي تضمن أن تكون إدارة المخاطر نظاما متكاملاً يحاكي أفضل الممارسات الدولية.
وفيما يتعلق بالواقع العملي تشير الإحصاءات الوطنية والدولية إلى حجم التحديات التي تواجه المؤسسات العمومية في تونس، فقد أفادت منظمة إحدى المنظمات بأن 41% من المؤسسات العمومية التونسية تعاني من ضعف في الحوكمة المؤسسية فيما حصلت تونس على 39 نقطة من 100 في مؤشر مدركات الفساد لعام 2024 ما يعكس مستويات مرتفعة من المخاطر المرتبطة بالفساد والمحسوبية، علاوة على ذلك أشارت تقارير OECD إلى أن قطاعات مثل المشتريات العامة والجمارك تواجه مخاطر تشغيلية ومالية عالية نتيجة غياب تقييم منهجي ومنظم للمخاطر، بالإضافة إلى ضعف التنسيق بين الهيئات الرقابية مما يضاعف احتمالات سوء التصرف المالي والإداري، ومن ثم فإن هذه المعطيات تؤكد الحاجة الماسة لتبني أدوات تحليل دقيقة ومنهجيات استباقية لرصد المخاطر والتعامل معها قبل تفاقمها.
وبناء على ذلك ركزت الدورة التكوينية على الكشف المبكر عن المخاطر وتقييمها بفعالية، فقد تعلم المشاركون تحليل العمليات ومراجعة البيانات التاريخية وإجراء مقابلات مع الخبراء إضافة إلى استخدام أدوات التفكير الاستباقي مثل SWOT وScenario Planning لتحديد المخاطر المحتملة ووضع سيناريوهات مناسبة للتعامل معها، كما شملت الدورة تقييم المخاطر عبر مصفوفة الاحتمالية–الأثر، التحليل النوعي والكمي ومؤشرات التعرض للمخاطر بما يضمن ترتيب الأولويات وربطها بالاستراتيجية والإجراءات التشغيلية، وبهذه الطريقة أصبح بإمكان المؤسسات تبني رؤية شاملة ودقيقة لدعم اتخاذ القرارات الاستراتيجية وتقليل المخاطر قبل وقوعها.
وتكتسب هذه الدورة أهمية إضافية من خلال تعزيز القدرات المؤسسية لمواجهة التحديات التشغيلية والمالية، فقد أظهرت تجارب دولية أن المؤسسات التي تعتمد أنظمة متكاملة لإدارة المخاطر تحقق خفضا يصل إلى 30% في الخسائر المالية وتحسن جودة الأداء المؤسسي بنسبة 25% كما حدث في فرنسا وكندا، وبالمثل تواجه المؤسسات العمومية التونسية تحديات متعددة تشمل ضعف التقييم الاستباقي، نقص الخبرات المتخصصة ومخاطر الفساد والمحسوبية إضافة إلى محدودية استقلالية مجالس الإدارة، ومن ثم فإن اعتماد الأدوات والمنهجيات الحديثة يجعل إدارة المخاطر عنصرا استراتيجيا فعالا يسهم في تحسين الأداء المستدام وتحقيق استمرارية التطوير المؤسسي.
وفي هذا الإطار، توصلت الدورة إلى مجموعة حلول استراتيجية لتعزيز إدارة المخاطر في القطاع العمومي تشمل تفعيل التشريعات الوطنية، إعداد خريطة مخاطر موحدة لكل مؤسسة، تعزيز التكوين المستمر للموظفين، ربط الرقابة الداخلية بخريطة المخاطر، تطوير ثقافة الإبلاغ والشفافية وتفعيل المراقبة المستمرة باستخدام مؤشرات الأداء المرتبطة بالمخاطر (KRIs)، كما دعت الدورة إلى دمج أدوات التفكير الاستباقي في الأداء اليومي للإدارات بما يضمن القدرة على التنبؤ بالمخاطر والتخطيط لمواجهتها قبل وقوعها وهو ما يقلل من الخسائر المالية والتشغيلية ويعزز فعالية الأداء المؤسسي بشكل ملموس.
وفي الختام، تؤكد هذه المبادرة أن إدارة المخاطر والحوكمة الرشيدة ليست مجرد التزام تنظيمي بل أداة استراتيجية لتعزيز فعالية الإدارة العمومية وحماية المال العام، ومن خلال الدمج بين التدريب المكثف، التشريعات الوطنية، التحليل الإحصائي والخبرة العملية يمكن لتونس تحقيق نقلة نوعية في الأداء المؤسسي والحد من المخاطر التشغيلية والمالية وتعزيز ثقة المواطنين في المؤسسات العامة، ومن ثم يصبح المستقبل الإداري أكثر استقرارا ومرونة حيث تتحول إدارة المخاطر إلى جزء لا يتجزأ من ثقافة العمل اليومي ويصبح القرار الإداري قائما على بيانات دقيقة وتحليلات شاملة بما يضمن تحقيق الأهداف الاستراتيجية بفاعلية وشفافية.



