اختر لغتك

بين الشاهد وعمر بن الخطاب

لم يشدّ التونسيين من خطاب الشاهد اليوم تقريبا سوى ما ذكره عن الخليفة عمر بن الخطاب وتشبهه به، فالتشبيه من ناحية مثار غرابة صاعقة لما بين الشخصية الانسانية العظيمة وشخصية الشاهد الهامشية في التاريخ من فوارق تقاس بالاف السنوات الضوئية، ما جعل التشبيه مثار ازدراء وسخرية واسعة خاصة على شبكات التواصل الاجتماعي، ومن ناحية اخرى لما غرق فيه الخطاب من انفصام على واقع المواطن الغارق في غلاء المعيشة الحارق والمختنق بواقع التنمية البائس والرازح تحت البطالة القاتلة والمكابد للمحسوبية والفساد المقيتة.

خطاب جانَبَ الواقع المتأزم ولم يجب على الاسئلة الملحّة حول الضرورة التي استدعت التحوير الحكومي، وحول دواعي "اتساع" الاعضاء الذين شملهم التغيير، وحول ما حققه طيلة سنة كاملة والتقييم الذي فرض التحوير، وحول الانسداد الحاصل في البلاد اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وحتى حقوقيا، وحول وقوع القصبة تحت تحكم قرطاج عبر اغلب التعيينات، واغراقها بعديد وزراء المخلوع الذين قادوا البلاد لثورة 2010-2011، والخضوع لاشتراطات نجل الرئيس بتعيين ابرز "رجاله" في النقل بطريقة الاستنسابية، واحداث فراغ نيابي لفائدته قصد ترشحه في دائرة المانيا، وتعيين الصديق الشخصي للشاهد في التجارة بطريقة الولاء، كما لم يجب على التعيينات الفاقدة في اغلبها للكفاءة والخاضعة لمنطق المحاصصة الذي اكده تغيير هيكلة الحكومة حسب الانتماءات.

خطاب القى بالمسؤولية على الآخر وافتقر لاي جديد ولما يمكن ان يخلق حلولا مبتكرة تمكن من الانقاذ ويزرع الامل في المستقبل البعيد والقريب، اجتر نفس العناوين السابقة لاجندا صندوق النقد الدولي، التي اعلنتها قرابة الخمس حكومات سابقة من العريض وبعده جمعة وخليفته الصيد الى الشاهد 1 وصولا للشاهد 2، من "اصلاح جبائي" الى "اصلاح منظومة الدعم" ومعزوفة "المعرف الوحيد" الممجوجة مرورا بـ"اصلاح الوظيفة العمومية" و"اصلاح الصناديق الاجتماعية" و"تحوير حوكمة المؤسسات العمومية" و"اصلاح منظومة تمويل الاقتصاد"، العناوين التي بقيت تراوح مكانها دون ملامسة لعقم المنوال التنموي، لكن هذه المرة مع "تقليعة" اقتصادية "مبتكرة" بتقديم وعود تتجاوز مدة حكم القوى المنبثقة عن انتخابات 2014 التي تنتهي في 2019.

وتقديم جملة من الوعود بتحقيق اهداف كمية في موفى 2020 هو من الغرابة بمكان في المنطق السياسي والاقتصادي، لخروج سنة 2020 عن مجال تدخل هذه الحكومة ان بقيت لاخر عهدتها، ولا تتنزل في الحقيقة الا في اطار زرع اللخبطة والضبابية للتنصل من المحاسبة، فاهداف 5% نمو و70% سقف مديونية و3% كحد اعلى لعجز الميزانية و12,5% من الناتج الداخلي الخام بالنسبة لكتلة الاجور وتخفيض البطالة بـ3 نقاط في موفى 2020 زيادة على انها لا تتأسس على اية مستندات واقعية فهي لا تعدو ان تدرج في المحصلة سوى في مسلسل بيع الاوهام الذي احترف النداء ومسؤوليه في ترويجه قبل وبعد صعودهم للحكم.

تحوير جاء لمسح اثار الفشل المسجّل والتغطية على النتائج الحمراء المسجلة ابتداء من انهيار الدينار وتدهور الترقيم السيادي واشتعال مؤشرات العجز التجاري والميزانية والتضخم وانتشار البطالة وتعطل التنمية، وبعد ضمور بل انتهاء فرقعة "الحرب على الفساد" التي لم نعد نعثر لها عن قرار، واليوم يتم اعلان عنوان جديد على هذه الحكومة التي اصبحت حكومة "حرب" بعدما كانت حكومة "وحدة وطنية"، في لعبة بالكلمات والعناوين مخادعة في غياب المنجزات، هذا التحوير الذي شمل اكثر من نصف الحكومة (20 عضو) التي كانت تضم 39 عضو ويدل على انسداد واسع مقابل كلمات الرضا عن النفس وادعاء النجاح والجمل المنمّقة.

وكان لا بد من حلول "البريكولاج" المعهودة مزدوجة الاهداف، مثل مراجعة قوانين الصرف ومراجعة التراخيص للاجنبي في الاستثمار الفلاحي وتوزيع الاراضي الدولية والشراكة الخاصة العامة، التي لا تصب في اغلبها الا في اطار خدمة هيمنة لوبيات داخلية وخارجية على الثروات الوطنية والخوصصة المقنّعة والتفريط في السيادة الاقتصادية، وفي جانب اخر استدعاء المخيال الشعبي والعاطفة الدينية بمماهات احد اعظم الشخصيات الانسانية الخليفة عمر بن الخطاب، بادعاء ان منهج حكومته "هو منهج عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين يقول يبلغ الصادق بصدقه ما لا يبلغه الكاذب".

والواقع ان الامر مفارق بشكل صاعق بين من رفع شعار " لو عثرت بغلة في العراق لسألني الله تعالى عنها لِمَ لَمْ تمهد لها الطريق يا عمر" وحقّقه في الواقع ومن اسّس قاعدة محاسبة المسؤولين "من اين لك هذا" ومن ينزل بالليل لمراقبة الشعب ومعاينة الاخلالات، ومن عدله وسع كل البشرية، من جهة، ومن جاء من رحم الحزب الممول من منظومة الفساد، القادم للحكم بقناة القرابة ومنطق العائلة، الدائس على الحق والعدل بعد التنكيل الذي لاقاه احد المدونين مقعد على كرسي متحرّك قبل يوم من العيد، وبعد الفضيحة المجلجلة بطرد ابن عم ملك المغرب المعارض لنظام الملكي.

وبالفعل بين هذا والفاروق ابن الخطاب جدار عالي سميك لا يمكن اختراقه، ولكن تردي الوضع والانحطاط المتعمق، والانهيار القيمي والفكري والسياسي، في هذه الحقبة التي اغرقتنا في مستنقع اسن عميق، يجعلنا ننتظر كل هراء سياسي يطال رموز البشرية العظام، ولكنه لن يمس من قيمتهم وشأنهم الكبير، ولن يجيز التماهي مهما تكرر ومهما ارتفع ضجيجه من وصول صاحبه الى مراقي العظماء مهما حاول عبثا!!

 

(*) قانوني وناشط حقوقي

آخر الأخبار

بنزرت تستضيف ملتقى إقليمي حول "مقاربة تشاركية من أجل ريادة المؤسسات الثقافية"

بنزرت تستضيف ملتقى إقليمي حول "مقاربة تشاركية من أجل ريادة المؤسسات الثقافية"

فيروز.. أيقونة الوطن وصوت الأوطان يحتفل بعيدها التسعين وسط أنقاض الوطن

فيروز.. أيقونة الوطن وصوت الأوطان يحتفل بعيدها التسعين وسط أنقاض الوطن

الأيام الترويجية للصناعات التقليدية هو تجسيد لهوية لا تنطفئ

الأيام الترويجية للصناعات التقليدية هو تجسيد لهوية لا تنطفئ

النسخة التاسعة من أسبوع المطبخ الإيطالي حول العالم

النسخة التاسعة من أسبوع المطبخ الإيطالي حول العالم

أيام تحسيسية مشتركة لدعم انتقال المجامع التنموية النسائية إلى شركات أهلية

أيام تحسيسية مشتركة لدعم انتقال المجامع التنموية النسائية إلى شركات أهلية

Please publish modules in offcanvas position.