هكذا يصير الحكم في تونس من شبهوي مركزي في العاصمة إلى رئاسي في المركز وشبه برلماني في الجهات وهو ما تدرك الأحزاب رهانه واستحقاقاته أيضا.
يؤكد التهافت السياسي الحاصل اليوم بين الأحزاب والقوائم الانتخابية المستقلة منها والتوافقية على مقعد نيابي يتيم في دائرة اقتراعية بألمانيا أننا حيال أحزاب دعائية ذات غايات انتخابية، ولسنا حيال أحزاب سياسية بمشاريع ورؤى كبرى تبحث عن إرساء ثقافة سياسية ومدنية في البلاد بالتوازي مع سعيها إلى الوصول إلى السلطة.
ولأن الراهن السياسي في تونس يقوم أساسا على أحزاب انتخابية، لا يضرها شيء أن تبقى في سباتها فكري والمعجمي والاتصالي إلى حين قرب الاستحقاقات التمثيلية، فتقريبا ذات المشهديات تتناسل وتستنسخ مع كل رهان اقتراعي حيث يعود الخطاب السياسي إلى مربع الأيديولوجيات والاصطفافات إلى ما قبل سقوط جدار برلين، وتتحول منابر النقاش الإعلامي إلى موائد للمزايدات من كافة الأطراف السياسية.
غير أن الملاحظ أن جرعة التدخل السياسي في الشأن الانتخابي بلغت مدى غير مسبوق من الفاعلين السياسيين وصل إلى حد مأسسة الفراغ الدستوري في الهيئة العليا للانتخابات، وهي الطرف الموكول دستوريا وقانونيا بتنظيم الاستحقاقات الانتخابية.
ذلك أن الهيئة العليا للانتخابات تعاني من استعصاء هيكلي قوامه شغورات كبرى في مستوى الرئاسة وفي نطاق ثلث أعضائها وجوهره أيضا عجز مجلس النواب عن تجاوز التباين الكبير بين كتله في سد الشغورات وتأمين الدور الرقابي والتنظيمي للهيئة.
التحذيرات التي أطلقها الاتحاد العام التونسي للشغل إزاء خطر الفراغ في السلطات البلدية وتفريغ هيئة الانتخابات من دورها ومن هويتها الاستقلالية، تفرض دق ناقوس الخطر أو على الأقل إنارة الشارة البرتقالية المتاخمة للأخطار والأخطاء.
سعي الأحزاب السياسية إلى احتواء هيئة الانتخابات أو في صورتها الأدنى إدارة فحواها عن بعد مردّه القناعة العميقة بأن الانتخابات البلدية القادمة هي الانتخابات النيابية التشريعية الحقيقية، وأن الرهان الانتخابي لا بد أن يكون منصبا على الاستحقاق البلدي بكافة تفاصيله وحيثياته.
هناك يقين يحرك الأحزاب السياسية في تونس اليوم أن شكل النظام “الشبهوي” لن يستمر حيث أن النظام الحاكم هجين في حيثياته ومفاصله بين شبه رئاسي وشبه برلماني، وأن التوجه الذي عبّر عنه حزب نداء تونس ولم ترفضه حركة النهضة كامن في تغيير النظام إلى رئاسي صرف، حيث تتمركز السلطات التنفيذية والتقريرية والتشريعية في يد ساكن قصر قرطاج.
هكذا أكد الرئيس الباجي قائد السبسي أكثر من مرة وهكذا يتحرك فيلة حزب النداء ومدفعياته الصوتية الجديدة منها والقديمة، وطالما أنها لا توجد معارضة حقيقية ووازنة ومؤثرة لهذا التوجه فإن انتخابات 2019 ستكون رئاسية بامتياز وبرلمانية بالهامش.
وطالما أيضا أنّ التوجه الجامع كامن في إرساء اللامركزية وحكم المجالس البلدية ومجالس المحافظات مع توسيع صلاحياتها التنفيذية ضمن دوائر سلطاتها فإن انتخابات 2018 للبلديات والولايات تصير بيضة قبان الأحزاب ودرة تاج القائمات الانتخابية ومحرك الصراع والاحتراب.
هكذا يصير الحكم في تونس من شبهوي مركزي في العاصمة إلى رئاسي في المركز وشبه برلماني في الجهات وهو ما تدرك الأحزاب رهانه واستحقاقاته أيضا.
وإلى حين الوصول إلى انتخابات 2018 تتفكك بشكل تدريجي منظومات التحالف المبنية على النظام القديم، فالاستقالة من وثيقة قرطاج التي أسست لحكومة يوسف الشاهد ستأخذ شكلا تصاعديا وخاصة من الأحزاب، هنا يتنزل الهجوم الإعلامي الكاسح لياسين إبراهيم رئيس حزب آفاق تونس ضد حركة النهضة شريكته في الحكومة والحكم.
كما أن الاستقالة التي قدّمها إياد الدهماني الناطق باسم الحكومة من الحزب الجمهوري والذي، أي الحزب، أحرق كافة قوارب العودة إلى وثيقة قرطاج وإلى المشاركة في حكومة الشاهد تندرج في فك الارتباط الجزئي بتركة شكل النظام القديم والبداية في التفكير في ميكانيزمات جديدة في التقارب على ضوء الانتخابات البلدية ونتائجها ومنظومة النظام الجديد.
هو المخاض العسير الذي يعرفه المشهد السياسي التونسي والذي لن ينتهي قبل الوصول إلى تسوية شاملة بين التكتلات الوازنة في هيكلية ورئاسة هيئة الانتخابات.
تنظر الأحزاب بشبق السلطة إلى الغنيمة الانتخابية القادمة في الولايات والبلديات. احتراب كرسي ألمانيا عيّنة أولى وعميقة في آن، الكل يشحذ سكاكين الانتخابات دون دراية بما يعتمل من خريف غضب في الجهات المحرومة.
كاتب ومحلل سياسي تونسي
أمين بن مسعود