صندوق الاقتراع في 2019 سيقلب المشهد والتونسيون سيحاسبون من وعدهم وأخلف.
بعد ثلاث سنوات على تسليم رئيس الحكومة الأسبق المهدي جمعة مقاليد الحكم للأحزاب الفائزة في الانتخابات التشريعية عام 2014، عاد الرجل للمشهد السياسي مجدّدا عبر تأسيسه مشروعا جديدا أطلق عليه تسمية حزب البديل التونسي.
وتثير عودة المهدي جمعة بقوة للساحة السياسية التونسية تساؤلات لدى عدد كبير من ساسة البلاد أو المتابعين والرأي العام.
ويرتبط الجدل حول شخص المهدي جمعة بالاتهامات التي وجهتها له، أياما قليلة فقط من تسليمه رئاسة الحكومة لرئيسها السابق الحبيب الصيد، شخصيات سياسية وازنة في البلاد وفي مقدّمتها الأمين العام السابق لاتحاد للشغل حسين العباسي والرئيس الحالي الباجي قائد السبسي اللذين اتهماه صراحة بمحاولات التنكر لاتفاقات الحوار الوطني عام 2014 عبر تفكيره في الترشح للانتخابات الرئاسية في تلك الفترة.
وفي لقاء اعلامي، أجاب المهدي جمعة عن الكثير من هذه التساؤلات وقدّم تصورات مشروعه السياسي الجديد لإنقاذ البلاد من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الخانقة، علاوة على تقييمه لفترة حكم حزبي نداء تونس وحركة النهضة طيلة ثلاث سنوات.
وكشف أنه بات يفكّر جيّدا في العودة بقوة إلى الساحة السياسية بعد انضمامه مؤخرا إلى ائتلاف انتخابي تمت تسميته بالاتحاد المدني ويضم 11 حزبا حداثيا لخوض الانتخابات البلدية المزمع إجراؤها في 6 ماي المقبل.
اتهامات وتناقضات
مع تفكّك الحزام السياسي الداعم لحكومة يوسف الشاهد بمغادرة عدة أحزاب لوثيقة أولويات الحكومة (وثيقة قرطاج) تختلف التقييمات في الساحة السياسية حول من يتحملّ مسؤولية الفشل، الأحزاب أم رئيس الحكومة.
ومن وجهة نظر رئيس الحكومة الأسبق، فإن من يمسك بمقاليد الجهاز التنفيذي هو رئيس الحكومة وليست الأحزاب، وبالتالي فهو من يتحمل مسؤولية كل الخيارات، محمّلا في الوقت نفسه منظومة الحكم مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في البلاد من تقهقر.
وقال المهدي جمعة في تقييمه للوضع المتأزم الذي تعيش على وقعه تونس إن الأمور تعقّدت أكثر خصوصا بعد أن صنف الاتحاد الأوروبي تونس مرّة أخرى على قائمة سوداء جديدة وتتعلق هذه المرة بمخاطر عالية في تمويل الإرهاب وغسيل الأموال.
وشدّد على أن الحكومة فوّتت على نفسها فرصة توظيف واستغلال قرابة 250 ألف عاطل عن العمل من أصحاب الشهادات العليا كان يمكن الاستفادة من تكوينهم، محذّرا من مزيد إغراق الطبقات الوسطى والفقيرة في العديد من الخيبات الأخرى.
وذكّر بالأجواء المحتقنة في تونس عقب تمرير قانون المالية لعام 2018 بقوله إن الاحتجاجات الأخيرة التي عرفتها العديد من جهات البلاد مشروعة وهي ناتجة عن أزمة اقتصادية مردّها غياب الرؤى والتصورات لدى من يحكمون البلاد اليوم، وذلك كان منتظرا.
وأضاف أن حكام تونس اليوم لا يملكون أي تصورات لإخراج البلاد من أزمتها وأنهم أمسكوا بالحكم عقب تقديم وعود فارغة المحتوى، متّهما حزبي النهضة الإسلامية ونداء تونس بالتحالف من أجل اقتسام السلطة لا غير.
مسؤولية تاريخية
توصل الرباعي الراعي للحوار الوطني في تونس عام 2013 برفقة عدد من الأحزاب إلى الاتفاق حول المهدي جمعة، وهو أحد خريجي المدرسة الوطنية للهندسة ووزير للصناعة في حكومة الترويكا التي قادها علي العريض ليكون رئيسا للحكومة إلى غاية تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية عام 2014.
ومنذ عودته لتصدّر المنابر الإعلامية، يُتّهم المهدي جمعة في المشهد السياسي التونسي بالسقوط في العديد من المتناقضات خصوصا أنه لم ينفّذ الإصلاحات أو التصورات والرؤى، التي يتشدّق بها الآن، خلال تقلده منصب رئيس للحكومة في العام 2014.
وعلّق جمعة على هذه الاتهامات قائلا “على من يتّهمني اليوم أن يعلم أني لم أحكم لمدة خمس سنوات بل حكمت مدة لم تتجاوز الثمانية أشهر ونفذت كل البرامج المتفق عليها وأهمها تنظيم الانتخابات”، مضيفا “ما حققته في عام أكثر بكثير مما حققته المنظومة الحالية بقيادة النهضة ونداء تونس طيلة ثلاث سنوات وكل ذلك بالأرقام”.
ورغم ارتفاع نسب رضاء التونسيين عموما على الفترة التي تقلد فيها المهدي جمعة مقاليد الحكم، فإن ما خفي من كواليس في عهدته كشفه الأمين العام السابق للمنظمة الشغيلة حسين العباسي ومن بعده الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي بتأكيدهم على أن جمعة فكّر في التنكر لتعهدات ومخرجات الحوار الوطني في العام 2013 وعبر عن نيته الترشح للانتخابات في العام 2014.
ورد جمعة على كل ما أثير حوله قائلا “كل من اتهموني يلجأون عادة إلى توجيه ضربات قاصمة للخصوم، ولا أستطيع الدخول معهم في صدام لأني لا أريد أن أبني برامجي على الشتائم أو على المزايدات السياسيوية”.
ولئن لم يكن المهدي جمعة رئيسا للحكومة خلال اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي في العام 2013، فقد كثر الحديث في ما بعد حول شخصه خصوصا بعد مقتل الإرهابي كمال القضقاضي منفذ جريمة اغتيال بلعيد في عهده ووجهت له آنذاك ولوزارة الداخلية التونسية العديد من الاتهامات تفيد بأن القضاء على القضقاضي كان بغاية طمس ملامح الجريمة وعدم التوصل لمن وقف وراءها أو من خطط لها.
وأكّد رئيس الحكومة الأسبق أنه قدّم كل ما يمكن فعله في قضية اغتيال الشهيد شكري بلعيد ولم يتعهد إلا لابنته نيروز بالثأر لوالدها، ولذلك أعطى الأوامر بالقبض والقضاء على كل من تورط في الجريمة، نافيا أن يكون القضاء على كمال القضقاضي بنيّة قبر الملفات.
وكشف أنه كان من بين أكثر السياسيين في فترة حكمه عرضة للاغتيال بقوله “الأجهزة الأمنية فكّكت خلية إرهابية أرادت اغتيالي حتى أني تركت وصية في أدراج مكتبي تضمنت 3 أسماء وزراء لإكمال المهمة من بعدي إن وقع اغتيالي”.
حول برامح حزبه الجديد البديل التونسي، أكد المهدي جمعة أن تأسيس مشروعه السياسي لم يكن اعتباطيا بل كان مرتكزا بالأساس على بعث مركز دراسات في مرحلة للتقرب من تطلعات الرأي العام.
وأشار إلى أنه توجد عدة شروط لإخراج البلاد من أزمتها أولها الانطلاق في الحوكمة العصرية وضمان التماسك الوطني الاجتماعي وكذلك تطبيق الإصلاحات الكبرى حتى وإن كانت موجعة، إضافة إلى تطبيق القانون على الجميع على الرئيس والمرؤوس.
وشدد على أن أهم الشروط هي ضرورة تعصير الإدارة وتحديثها ورقمنتها، طارحا فكرة إلغاء التراخيص للمستثمرين وتعويضها بكراس شروط يكون خاضعا لمراقبة الأجهزة الحكومية لأن الإدارة أصبحت أكبر عائق أمام تطور البلاد وخاصة في الجهات المهمّشة التي انطلقت منها الشرارات الأولى لقيام ثورة جانفي 2011.
وكغيره من الأحزاب التونسية عدّل حزب البديل التونسي بوصلته على الاستحقاق الانتخابي البلدي في مايو 2018 بدخوله في ائتلاف انتخابي هو “الاتحاد المدني” الذي رافقت ميلاده العديد من المخاوف من تكرر سيناريو تفكك جبهة الإنقاذ في 2017 والتي ضمت آنذاك نفس التيارات السياسية تقريبا باستثناء حزب البديل.
وقال جمعة إن دخوله في الاتحاد المدني كان مبنيا بالأساس على نظرة مستقبلية تراهن على الشباب، مؤكدا وجود تقدم في تكوين القائمات الانتخابية وأنه لا يهمه إن كان المترشحون من حزبه أو لا بقدر ما يهمه أن يكونوا نزهاء ونظيفي اليد.
وأكّد أنه ليس متخوفا لإمكانية تكرر ما حصل مع جبهة الإنقاذ لأن الاتحاد المدني ائتلاف انتخابي وليس سياسيا، مضيفا أن هذا الائتلاف لن يراهن مثل حزبي نداء تونس أو حركة النهضة على ترشيح أسماء وازنة مثل عبدالفتاح مورو أو كمال إيدير بل سيراهن على بعث “مشتلة” سياسية جديد يقودها الشباب.
وعلى عكس الكثيرين، شدد جمعة على أن الانتخابات البلدية لن تكون مقياسا للاستحقاقات القادمة المتعلقة بالرئاسية أو التشريعية في العام 2019، معربا عن تخوفّه من تداخل الدولة بالحزب الحاكم خلال الانتخابات البلدية بقوله “يوجد تداخل كبير بين حزبي الحكم وأجهزة الدولة وهناك حالات واقعية وموثقة تثبت محاولات بعض الولاة والمعتمدين خدمة مصالح النهضة والنداء”.
وأكد أن حزبي الحكم يقومان بفرض ضغط كبير على أجهزة الدولة للفوز بالانتخابات عبر إيهام المترشحين بالانضمام إلى قائمتهما أو عبر توظيف الوزراء وكتاب الدولة للقيام بحملات انتخابية وكل هذا يمس بسمعة الديمقراطية التونسية.
وبنفس الطريقة التي يتم عبرها توجيه عدة اتهامات لحزبي الحكم في تونس، يُتّهم المهدي جمعة بدوره بتلقي دعم من دول خارجية. ونفى جمعة ذلك مؤكدا “في كل مرة تُنسب لي أشياء مغلوطة، مرة بتلقي دعم أميركي وأخرى بتلقي دعم بريطاني أو ألماني، ولذلك أجيب بأني لو كنت بكل هذه القوة لأسست منظمة أمم متحدة جديدة في تونس”.
وانتقد جمعة الحرب على الفساد التي أطلقها رئيس الحكومة يوسف الشاهد بإيقاف العديد من رجال الأعمال المتهمين بالفساد. وقال “باركنا الحرب على الفساد لكن يبدو أنها كانت انتقائية”.
النظام الرئاسي
من بين المسائل التي تثير جدلا أيضا في تونس في الفترة الأخيرة كثرة الحديث عن فشل النظام السياسي الحالي المنبثق عن دستور الجمهورية الثانية بتعالي الدعوات الحزبية للعودة إلى النظام الرئاسي.
وعلق المهدي جمعة على هذه الدعوات بقوله “لا يمكن تغيير أي شيء أو أي منظومة إذا لم نستكمل تجربتها وأنا لست مع مراجعة النظام السياسي لأنه لا يمثل مشكلة في البلاد الغارقة تحديدا في المحسوبية وعدم الكفاءة وغياب الشجاعة السياسية لدى من يحكم”.
وطالب بضرورة استكمال كل الصلاحيات التي منحها الدستور لرئيس الجمهورية أو لرئيس الحكومة ومن ثمة المطالبة بتغيير النظام السياسي أو تعديله إن وجدت نقائص.
وشدد على وجود عدم وضوح في مسألة من يحكم البلاد، قائلا “في الظاهر يبدو أن الكفة ليست معدّلة لكن في النهاية رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة يتحملان المسؤولية بغض النظر عمن يحكم فعليا”.
وتشهد تونس تنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية في العام 2019، وبات هاجس الرئاسة حلم جل ساسة البلاد خصوصا كما تردّدت أخبار عن عزم الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي الترشح لرئاسة البلاد.
وعلق المهدي جمعة على هذه المسألة بقوله إن لديه مشروعا سياسيا بصدد التأسيس وما يعد به الجميع هو أنه لن يترشح لأي مسؤولية أو منصب هام إذا لم يستكمل وضع برامج وتصورات تفيد البلاد. أما بخصوص السبسي والغنوشي، فقال إن حصيلة حكمهما في البلاد منذ 2014 كانت هزيلة ومازالت أمامهما سنتان من الحكم وعليهما أن يتداركا الوضع لأن صندوق الاقتراع في 2019 سيكون الفيصل والمقيّم الوحيد لأدائهما في الحكم مهما كان اسم المترشح.