تتيح القاعة المعلقة فوق برج بمدينة الثقافة على ارتفاع 65 مترا، رؤية الجانب الأكبر للعاصمة في مشهد تتجاور فيه البنايات الحديثة والقديمة المتداعية، جنبا إلى جنب.
أصبح للعاصمة الآن مبنى ثالث شاهق مزاحم للمقر السابق لحزب التجمع الدستوري الذي حكم تونس في حقبة الرئيس السابق زين العابدين بن علي قبل حله عام 2011 بعد احتجاجات شعبية.
يفصل المبنيين في شارع محمد الخامس مسافة 300 متر، وهو يتقاطع في نهايته مع شارع الحبيب بورقيبة حيث يرتفع مبنى فندق إفريقيا العريق والمشيد منذ العام 1970.
لكن أهمية برج مدينة الثقافة المترامية والتي شيدت حديثا بعد أكثر من عقد على بدء الأشغال، تتجاوز مجرد التقاط صور بانورامية مختلفة للعاصمة من ارتفاع شاهق لم يعتده التونسيون.
فالتحدي الأول لهذا المجمع الثقافي الضخم على مساحة تناهز تسع هكتارات، هي منح دفعة للثقافة في مدينة اعتادت النوم مبكرا وأرهقها ضجيج السياسة والاحتجاجات منذ بدء الانتقال السياسي عام 2011.
يقول الأديب كمال الرياحي الذي سيكلف بإدارة الجناح الخاص بالكتاب في مدينة الثقافة، لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب. أ) "إن الوقت قد حان في تونس للبدء في الانتقال الثقافي".
ويرى الكاتب أن التجاور بين الآداب والفنون في فضاء واحد سيخلق ديناميكية جديدة للثقافة في تونس، وهو تقليد عرف في بداياته مع "جماعة تحت السور" التي ذاع صيتها في الثلث الأول من القرن الماضي، وكانت تضم كتاب وشعراء وصحافيون وغيرهم.
يضيف الرياحي قائلا "كان هؤلاء يجتمعون في المقهى. اليوم سيلتقي المثقفون والمبدعون في مدينة".
ينظر إلى "مدينة الثقافة" كأحد أكبر المشاريع في البنية التحتية في تونس وفي منطقة المغرب العربي.
وقد دشن المشروع ،الذي بدأت اشغال البناء فيه رسميا في العام 2006 قبل أن تتعثر بعد ذلك لأسباب مالية وإدارية، في شهر مارس 2018 ليكون أكبر الوجهات الثقافية ومتنفسا للعاصمة.
وتمتد المدينة الواقعة على مساحة إجمالية تقدر بنحو 9 هكتارات من بينها 50 ألف متر مربع مغطاة بكلفة بلغت 150 مليون دينار تونسي (4ر62 مليون دولار) ويتوسطها برج بطول 65 مترا تعلوها قاعة بلورية معلقة كروية الشكل.
يقول وزير الثقافة محمد زين العابدين في أول مؤتمر صحفي من داخل مدينة الثقافة أثناء التدشين "إن المدينة تهدف لأن تكون قطبا ثقافيا ونقطة جذب دولية وهي تعكس استراتيجية جديدة للثقافة في تونس".لكن الوزير يشدد أيضا بأن المشروع يهدف أساسا إلى تحويل الثقافة كصناعة في تونس.
كما أوضح بأن المجمع الثقافي الضخم سيكون بمثابة مؤسسات متعددة وإدارات عامة.
وربما الاختبار الأول الذي ستواجه المدينة هو كيفية اشاعة الحياة في العاصمة بدءا من "شارع محمد الخامس" نفسه وتحويله إلى نقطة جذب للمثقفين، في وقت تكاد حركة السير تنعدم فيه بعد الساعة الثامنة ليلا.
فلا يزال الشارع يحمل آثار ذكرى مؤلمة عن أكثر الهجمات الارهابية دموية في تونس عام 2015 حينما سقط 12 عنصرا من الأمن الرئاسي في تفجير بحافلة تبناه تنظيم الدولة.
ولمحو تلك الذكرى توفر المدينة مراكز للتسوق والترفيه ومطاعم للأكلات الخفيفة وحاضنة أطفال، في خطوة قد تحول الشارع الى القلب النابض للعاصمة.
يضم المجمع الثقافي ثلاثة مسارح، اثنان مخصصان للعروض المسرحية للمحترفين والهواة وقاعة أوبرا تتسع لـ1800 متفرج ومتحف للفنون المعاصرة.
وتوجد قاعتا سينما ومكتبة سينمائية وفضاءات أخرى مخصصة للكتب والمعارض ومتحف وقاعات للتدريب ومركب تجاري وترفيهي.
يقول الأديب كمال الرياحي "العاصمة تفتقر إلى بنية تحتية ثقافية في ظل تطور الانتاج الثقافي، لا توجد مسارح وقاعات سينما لائقة.
نحن نحتاج اليوم إلى هذا المركب لأنه يمنح دفعة قوية للقطاع الثقافي".
ويتابع في حديثه "كان لا بد أن تحدث ثورة ثقافية في تونس. يجب أن نقدم السينما والمسرح والأدب في صورة لائقة".
في رواق المكتبة السينمائية تنتشر ملصقات لأبرز أفلام الممثلة التونسية الايطالية الشهيرة كلاوديا كاردينال نجمة السينما في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. اختارت المدينة كاردينال لتكون راعية المكتبة المكلفة بحفظ ذاكرة السينما التونسية والعالمية.كما دشن المجمع السينمائي أنشطته بعرض أفلام كاردينال تكريما للمثلة المخضرمة.
وفي رواق آخر خصص لمعرض "الحداثة التونسية" يقدم المشرفون اهم الوثائق واللوحات لفترة يعتبرها المؤرخون في تونس مفصلية في تأسيس الحداثة بين عامي 1830 و1930.يعرض الرواق وثيقة الغاء العبودية ونسخة من أول دستور في البلاد عام 1864 وقطع من اللباس العسكري والعملة ، ومقتنيات أخرى من ابرز الاختراعات التي جلبت الى تونس في تلك الفترة ومن بينها أجهزة الاتصال.
احتاج المسؤولون في المدينة إلى مساعدة الجيش لنقل الأعمال الفنية من لوحات ومنحوتات وأرشيفات، والهدف من ذلك بحسب وزارة الثقافة أن تتحول مدينة الثقافة إلى "قطب الأقطاب" في تونس.كما تخطط وزارة الثقافة بأن تكون المدينة منصة لإطلاق حوارات في قضايا تشغل الانسانية عبر منتدى تونس الدولي للحضارات.
ومع كل الزخم الذي رافق افتتاح المدينة فإن أكثر ما يخشاه المثقفون أن تتحول بعد بضعة أشهر أو سنوات قليلة إلى مدينة أشباح، إذ أن أغلب الانتاجات الثقافية تعتمد على الدعم الحكومي وكثيرا ما تصطدم طلبات الدعم بالبيروقراطية بسبب تدني موارد الدولة التي تعاني صعوبات اقتصادية.
يوضح وزير الثقافة محمد زين العابدين "إن المدينة جامعة لكل الفنون والآداب، تضم جملة من الأقطاب وهي مؤسسات ذات استقلالية مالية وإدارية، وهو ما يضمن هامشا كبيرا من الحرية في عملها، ولكل مؤسسة أهداف ترسمها".
كما يضيف الوزير قائلا "مدينة الثقافة تعطي فرصة لقراءة مشهد ثقافي مختلف، تتيح فرص العمل للمبدعين وتفتح الباب للفنانين للتكوين والابتكار والعرض. هذه المدينة لن تقصي أحدا".سيمتد نشاط المدينة مبدئيا حتى يونيو لتفسح المجال بعدها للمهرجانات الصيفية على أن تستأنف النشاط فيها في سبتمبر المقبل.
وستحتضن المدينة في فترتها الأولى، الدورة الأولى لمهرجان "أيام قرطاج الشعرية" وأيام "مسرح المدينة" والمهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون، وتظاهرة اللقاءات الدولية للفيلم الوثائقي بتونس وملتقى تونس الأول للرواية العربية.