الأزهر يبحث عن مشجب يعلّق عليه أخطاء الماضي والحاضر للتنصل من تحمل مسؤولية أخطاء ارتكبت على مدى قرون.
يبدو أن الأزهر والفاتيكان اتّفقا على توجيه اللوم إلى الفضاء الإلكتروني، وتحميله مسؤولية انتشار ثقافة العنف والتطرف والإرهاب، فهو حسب المؤسستين الأكبر تأثيرا بين المؤمنين، مليء بالمغالطات والأفكار الهدامة. في هذا الموقف تحامل كبير على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، والأخطر أنه يخفي نزعة للتنصل من تحمل مسؤولية أخطاء ارتكبت على مدى قرون.
دعوة الأزهر والفاتيكان الأخيرة إلى مد جسور التعاون بين المؤسسات الدينية في العالم، واعتبارها ضرورة ملحة من أجل الإنسانية، ودعم الخطاب الديني المعتدل ومكافحة الأفكار المتطرفة، مرحّب بها، ولكنها تبقى منقوصة إن لم يسبقها الاعتراف وتحمل مسؤولية الوضع الذي وصلت إليه البشرية من مشاعر حقد ونزعات طائفية.
تاريخيا، تم تحويل الأزهر إلى جامعة لتلقي العلوم الدينية عام 988، في عهد الخليفة الفاطمي العزيز بالله. وكان الفاطميون قد فتحوا مصر في عهد المعز لدين الله، وما إن تحققت لهم السيطرة على البلاد حتى باشروا بوضع أساس مدينة القاهرة عام 969، وبعد عام من ذلك التاريخ وُضع أساس جامع الأزهر.
لم يبخل الخلفاء الفاطميون على الأزهر بالرعاية، فزوّدوه بالكتب والمراجع التي يسّرت للطلاب مهمة الاطلاع والبحث، كما حرصوا على تخصيص موارد للإنفاق، فأوقفوا عليه الأحباس، وحذا حذوهم الكثير من الأثرياء من أهل الخير؛ الذين أنفقوا على فرشه وإنارته وتنظيفه وإمداده بالماء، وعلى رواتب الخطباء والمشرفين والأئمة من مختلف المذاهب الفقهية.
لعبَ الأزهر، في البداية، دورا سياسيا وثقافيا وروحيا بارزا، ليس في حياة المصريين فحسب، بل في حياة المسلمين والعرب. وحرص على أن يرسخ في أذهان طلابه أن الإسلام “مواكب لكل زمان ومكان”، وأنه ممثل للوسطية، داعيا للتطور في فهم النصوص الدينية. إلا أن هذا لم يدمْ طويلا، وسرعان ما تخلّى القائمون عليه عن تطوير المنهج الدراسي، الذي لحق به الجمود.
عن أية مخاطر يتحدث القائمون على الأزهر والفاتيكان، عندما يوجهون اللوم إلى الفضاء الإلكتروني، ويحذرون من تأثيراته السلبية على عقول الشباب؟
الفضاء الإلكتروني، هو وسيط مفتوح للمعلومات يعتمد على حرية الاختيار؛ يساهم فيه الجميع، أفرادا ومؤسسات وحكومات، وأهم ما يميزه هو غياب المعلم والموجه، وما كان لتأثيره السلبي الذي يحذرون منه أن يوجد، لولا أن المتلقي مشبع مسبقا بالأفكار السلبية، ومهيأ لتقبل الفكر المتشدد.
هناك من يبحث عبر الفضاء الإلكتروني عن معلومات تعزز قيم التسامح والحب، قيم الجمال والرغبة في الحياة. ومنهم من يجتهد لإنقاذ كوكب الأرض، ويدعو لإنهاء الحروب. وهناك أيضا من يدعو للكراهية ومعاداة الحياة والقتل وثقافة الانتقام.
من نشأ في جو من الحب واحترام الحياة سيجد في الفضاء الإلكتروني ضالته، ومن نشأ في جو الكراهية سيجد هو الآخر فيه ضالته.
مع الأسف، الذين نشأوا على المناهج الدراسية التي يعتمدها الأزهر لم يتعلموا حب الحياة أو ثقافة التسامح.
للمسلم، كفاية لشر الكافر أن يفقأ عينه، أو يقطع يديه ورجليه؛ هذا بعض ممّا تعلّموه، وأول صورة تتبادر لأذهاننا، هي صورة لخطيب من تنظيم داعش يحض أتباعه قبل الانطلاق في غزوة.
ولكنها، في حقيقة الأمر، فقرة من كتاب مقرر على طلاب المرحلة الثانوية في الأزهر، هو “الإقناع في حل ألفاظ أبي قناع”.
وفي الصفحة 357 من نفس الكتاب، يعلم الأزهر طلّابه إهانة أصحاب الديانات الأخرى المخالفين لهم، فـ”الجزية تؤخذ من الكتابي على وصف الذل والصغار”.
وليس هذا فقط، بل يكون المسلم الجابي جالسًا والذمّي واقفًا ويأخذ بتلابيبه ويهزه هزًا ويقول “أعط الجزية يا عدوّ الله”.
وفي توجيه ثان، حفل به مقرر آخر يدرسه الأزهر لطلابه، هو “الاختيار لتعليل المختار في فقه أبي حنيفة”، نقرأ في الصفحة 338 ما يلي “وإذا فتح الإمام بلدة عنوة إن شاء قسّمها بين الغانمين، وإن شاء أقرّ أهلها عليها ووضع عليهم الجزية، وعلى أراضيهم الخراج، وإن شاء قتل الأسرى، أو استرقّهم، أو تركهم ذمة للمسلمين”.
لنتخيل الآن السيناريو التالي: شاب تربّى في بيئة متسامحة، تحترم الأديان، ولا تفرق بينها، صادف أثناء بحثه على الفضاء الإلكتروني العبارتين السابقتين، ماذا سيكون رد فعله؟ بالتأكيد سيرى أن هاتين العبارتين قيلتا في زمن وظرف مختلفين عن زمننا وظرفنا، وبالتالي هي توجيهات غير ملزمة.
شاب آخر نشأ في بيئة متشددة، ترى بالآخر المختلف كافرا وعدوّا يستحق القتل، سيجد في العبارتين ما يعمق الكراهية في داخله ضد الآخر المختلف، وتحرضه على إنزال العقاب به، وحتى قتله.
هذا خطاب لا يحتاج فقط للتجديد، بل للنسف والتغيير الكلي.
واليوم ينظم الأزهر مؤتمرا عالميا يقول إنه مؤتمر لـ”التجديد في الفكر الإسلامي”، تشارك فيه مجموعة من الشخصيات السياسية والدينية على مستوى العالم، وممثلون من وزارات الأوقاف ودور الإفتاء والمجالس الإسلامية من 46 دولة.
وتركز المحاور الرئيسة للمؤتمر على أطر مفاهيم التجديد وآلياته، وتفكيك المفاهيم المغلوطة، وقضايا المرأة والأسرة، ودور المؤسسات الدولية والدينية والأكاديمية في تجديد الفكر الإسلامي.
وتتناول محاور مؤتمر الأزهر مسائل من قبيل تفكيك المفاهيم المغلوطة، المتعلقة بالجهاد والقتال في الخطاب الدعوي عبر الفضاء الإلكتروني. وتركز على إبراز المواطنة من خلال رؤية شرعية معاصرة.
ويفند المؤتمر الأفكار الإرهابية المتطرفة، ويركز على إبراز واجب الدولة نحو حماية أخلاقيات المجتمع من مخاطر وسائل التواصل والمواقع الضارة، والحديث عن السياحة والآثار “كملكية الدولة للآثار وحماية السائحين والآثار”.
ويناقش المؤتمر قضايا تحديات التجديد، وعلى رأسها ما يشيعه البعض من تكفير الأمة واعتزالها في الخطاب الدعوي، وظاهرة تقديس الفرد عند الجماعات الإرهابية، واستخدامها الشعارات الدينية لتحقيق مآربها. إلى جانب مناقشة دموية الفكر الإرهابي. وأخيرا يستعرض المؤتمر المؤثرات السياسية والاقتصادية والأمنية والتكنولوجية على التجديد.
رغم أهمية المواضيع المطروحة، لا نستطيع أن نكون متفائلين. سبق للأزهر أن قدّم الوعود، وفي كل مرة كان ينكص وعده.
واليوم يبدو أن القائمين على الأزهر، يبحثون عن مشجب يعلقون عليه فشلهم وانحيازهم للتشدد والغلو، ليجدوا ضالتهم في الإنترنت ووسائل الاتصال الاجتماعي.
رغم ذلك، نأمل أن يكون المؤتمر، ليس فقط مناسبة لمراجعة الآثار السلبية للفضاء الإلكتروني، بل مراجعة للنفس، واعترافا بأخطاء الماضي حتى يمكن تجاوزها.
أربع كلمات فقط تكفينا من الأزهر وضيوفه، برهانا على أنهم جادون في التغيير والتجديد: الدين لله والوطن للجميع.
علي قاسم
كاتب سوري مقيم في تونس