"رشاشك وكالة أنباء الثوار..إذا كذبت فيك وكالات الأنباء" (مظفر النواب)
قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ ما دعاه –السادات– بالحاجز النفسي الذي توهّم أنّه يستطيع تحطيمه بزيارته المضادة للتاريخ، هو تعبير صحيح عن حالة ”الرفض العقلي والوجداني” لقيام الدولة الصهيونية.. لذلك لا حظ المؤرخون لكل الحروب العربية الإسرائيلية، أنّه بالرغم من الإنتصارات التي أحرزها عدوّنا، فإنّ ”غصّة في القلب” كانت تشوب هذه الإنتصارات، نتيجة الرفض العربي من داخل الداخل، للتعايش المقهور مع هذا الكيان الغريب. وليس انتظار غولدا مائير و موشي دايان لصوت الهاتف القادم من القاهرة عام 1967 بعد الهزيمة، إلا انتظارا لإنكسار هذا الرفض.. فقد كانوا يعلمون أنّ جمال عبد الناصر ليس حاكما عربيا، بل هو صوت ذلك الرفض الداخلي العميق في النفس العربية. وبالرغم من الهزيمة، لم يصل صوت عبد الناصر –عبر الهاتف– إلى آذان مائير ودايان.
بعد عشر سنوات، في العام 1977، ذهب حاكم مصر شخصيا في حركة مباغتة ضد التاريخ، ليسمع صوته لملايين الصهاينة في “إسرائيل” والعالم. وبالرغم من “النصر المغدور” عام 1973 فقد أدرك الإسرائيليون قبل غيرهم أنّ صوت السادات ليس هو الصوت الذي كانوا ينتظرونه على الهاتف عام 1967، ليس هو الصوت العربي ولا هو ضمير مصر.
لذلك كانت معركتهم الحقيقية قد بدأت، بمعاهدة الصلح المنفرد، ولم تنته. وهي المعركة التي اتخذت لها إسما رمزيا هو “تطبيع العلاقات” وفي مقدمتها العلاقات الثقافية. والذين راقبوا مسيرة التطبيع بين النظامين المصري والصهيوني خلال تلك السنوات لاحظوا بغير عناء أنّ الجبهة الفكرية والأدبية والفنية، هي الجبهة المشتعلة، في مصر بين الصهاينة والمصريين. فرغم الحرص الإسرائيلي التقليدي على الغزو الإقتصادي والسيطرة العسكرية والتدخّل السياسي، فإنّهم يولون ”الثقافة” اهتمامهم الرئيسي والأوّل. ذلك أنّهم يرون –عن حق– أنّ الإنتصار في هذه المعركة هو الإنتصار الحقيقي والحاسم، فالقبول العقلي والوجداني بوجودهم، هو المقدمة الأولى لأي قبول آخر. هو أيضا الإنقلاب التاريخي الأوّل منذ الفتح العربي لمصر.
وقد لاحظ المراقبون أيضا على مسيرة التطبيع، أنّ –الحاكم– قد بذل غاية الجهد: في “الإعلام” لدرجة حذف الآيات القرآنية التي تمس اليهود،في “التربية” لدرجة وضع إسم “إسرائيل ”بدلا من فلسطين في خرائط الجغرافيا العربية، ولدرجة حذف حقائق الصراع من كتب التاريخ العربي. في ”الثقافة” لدرجة ترجمة مذكرات دايان ومائير وبن غوريون وايبان إلى العربية واصدارها بأسعار زهيدة بإعتبارها كتبا: ”أدبية” ولدرجة استقبال ”كبار” أدباء النظام من الحكيم إلى نجيب محفوظ للسفير الإسرائيلي في القاهرة.
ولكن الإسرائيليين أدركوا أكثر من غيرهم أنّ ذاك القبول هو قبول ”الحاكم” لا قبول الصوت الذي انتظروه منذ تأسيس الكيان، والذي لم ينقله الهاتف إلى آذانهم في هزيمة 1967.. لقد رصدوا التفاصيل الصغيرة في الحياة اليومية للمصريين، وشعروا في العمق بأنّ “لا” كبيرة كانت تستتر تحت الألسنة وخلف الشفاه الصامتة. لقد رصدوا الأعمال الأدبية والفنية للمنتجين الحقيقيين في الثقافة المصرية، لأدباء مصر غير المتقاعدين، لمثقفيها غير الموظفين، فإذا بذاك الإنتاج كلّه وأصحابه يقولون: لا.لا.لا. واستخلصوا من نبرة الصوت الصامت وايقاع الصمت الصارخ أنّهم مرفوضون، لازالوا مرفوضين، وسيبقى الرفض، هو الصوت الحقيقي لشعب مصر.. حتى ينتصروا في معركة الثقافة، معركة العقل و القلب والإرادة والضمير.
هذه المقاومة في مصر هي ذاتها في كل قطر عربي منذ هزيمتنا العسكرية الأولى. ولكنّها مقاومة الفطرة العنيدة في مواجهة الشعور بخطر الإبادة، ومقاومة الوعي الصلب في مواجهة الإحساس بخطر الإنقراض. ولأنّنا أمّة غائرة الجذور الحضارية رغم آيات التخلّف التي تغمرنا، فإنّ الإبادة التي نستشعرها هي الإبادة الحضارية، والإنقراض الذي يؤرقنا هو الإنقراض الحضاري.
إنّ أحدا لا يستطيع أن يتهم تاريخنا بالتعصّب، واليهود بالذات لا يستطيعون الزعم بأنّهم عانوا بيننا طيلة القرون التي عاشوها في صفوفنا كمواطنين. ربما يكونون قد ابتلوا بإضطهادات مارسها الأجنبي عنا في حكمه لبلادنا، كما اضطهد غيرهم من مسيحيين ومسلمين. ولكنّهم لم يعرفوا اضطهادا خاصا بهم من جانب العرب، لا لأنّ العرب لهم طبيعة عرقية ضد التعصّب، بل لأنّ أفكارهم الدينية الكبرى تخلو من العنصرية، فليس هناك ”شعب مختار” في الإسلام أو المسيحية.
أما اليهود في ظل كيان صهيوني مقتطع من أرض عربية وعلى حساب شعب كامل هو الشعب العربي الفلسطيني، فإنّهم لا يغتصبون أرضا فقط ولا يطردون شعبا من أرضه فحسب، بل هم يقدّمون ”بديلا حضاريا كاملا” لهوية المنطقة بأسرها.
هذا البديل يتخذ من “أرض الميعاد” ركيزة للدولة، ومن بعض اليهود القادمين من كافة أنحاء العالم ”شعبا مختارا”. ولكن هذه “الدولة” وذلك ”الشعب” ليس أكثر من نقطة انطلاق ”للبديل الحضاري الكامل” وهو الهوية الصهيونية بأيديولوجيتها العنصرية.
هذا البديل، في الشرق الأوسط، لا يتوقف عند حدود الإجلاء والإستيطان والتوسّع العسكري، بل يعني أوّلا وأخيرا ”سحق الهوية الحضارية العربية” وتسويد الهوية الصهيونية العنصرية.. فالإسرائيليون لا يستهدفون من “التطبيع” تعايشا، بل يرومون انتصارا مطلقا وسيادة كاملة.
وهو الإنتصار الذي لا يتطلّب في المائة سنة القادمة أن يكون هناك حاكم اسرائيلي في الرياض أو الرباط، ولا أن يكون جيش “الدفاع” الإسرائيلي مرابطا في الجزائر أو الخرطوم.. فهذا كلّه ممكن في ما بعد، أي بعد أن يكون ”العقل الصهيوني” هو الحاكم السيد من المحيط إلى الخليج. بعد أن ينمحي شيء إسمه ”العقل العربي” أو “الحضارة العربية” أو ”الإرادة العربية”وتسود الهوية الحضارية البديلة.
في غير الشرق الأوسط، ربما تتخذ هذه الهوية أشكالا أخرى للسيادة، ولكن ما أقرب الشبه وما أبعده بين ما تمّ في أمريكا الشمالية، وما يراد انجازه في بلادنا. لذلك، فرغم أية ارتباطات اقتصادية أو عسكرية أو سياسية بين ”اسرائيل” والولايات المتحدة، علينا أن نتذكّر دائما ذلك ”الشبه” في مشروع ونشأة الدولتين.
المهاجرون الأوروبيون من اضطهاد ”البروتستانتية” في أوروبا الكاثوليكية، هم غزاة أمريكا الشمالية التي لم تكن في أي وقت أرضا بلا شعب. كان المهاجرون متعددي الإنتماءات الوطنية الأصلية، وكان سكّان أمريكا من الهنود الحمر شعبا واحدا. وتوحّد المهاجرون تحت راية ”البديل الحضاري الكامل” وانّهم الروّاد ”لإكتشاف” العالم الجديد ”البكر والمتخلّف. ودارت أبشع مذابح التاريخ البشري، بإسم “العنفوان” و ”الهرب من الإضطهاد” و ”الحضارة” وبالتدريج أصبح المهاجرون هم “البديل” المنتصر، وأضحوا هم الأمريكيين وغيرهم مجرّد ”زنوج”.
هوية حضارية كاملة،حلّت مكان الهوية الأصلية، وبمرور الزمن أصبح “الأمريكي الأسود” شاكرا لسيده الأبيض أنّه يسمح له بالبقاء ”على قيد الحياة” ولو في أحياء بعيدة عن البيض، ولو في كنائس لا يدخلها البيض، ولو في مدارس لا يختلط فيها السود بالبيض. تحوّل الهنود الحمر في خاتمة المطاف إلى ”فولكلور بشري”.
وقع ذلك في التاريخ، لا في الأحلام ولا في الكوابيس. ولم يعد أحد يذكره بسوء، بل العكس فالولايات المتحدة هي احدى أعظم الدول في التاريخ بأكمله.. كما يكتبون. بل أصبحت المذابح والمجازر عنوانا كبيرا على ”حق التقدم في هزيمة التخلّف”. وفي النادر ما يشير أحدهم إلى ”العنصرية البيضاء في الولايات المتحدة”.
لقد استخدمت هذه العنصرية مكتشفات أوروبا في البارود والبخار والبندقية لتبيد على الملأ شعبا كاملا. ولكن قبل ذلك وأثناءه وبعده استخدمت الكتاب والصحيفة والبيانو واللوحة والتمثال والرقصة في تسويد ”الهوية الحضارية البديلة”. ولا يهم بعد ثلاثة قرون ما إذا كان حاكم تكساس من السود، وحاكم كليفورنيا من البيض، فقد أصبح الأسود أكثر بياضا من البيض –ملكيا أكثر من الملك، نقول– حين أصبح مستعمرا حضاريا من الداخل، لا يهم بعدئذ أن يكون الأبيض هو السيد الإقتصادي والعسكري والسياسي، فهذه مجرّد نتيجة لسيادته.. الثقافية.
طبعا، لسنا هنودا حمرا، ولن نكون. ولكن الإسرائيليين كالأمريكيين الأوائل، وأكثر. إنّهم قطعان من المهاجرين من أروبا مثلهم.وهم رأوا في فلسطين ”عالما جديدا” ودعوها أرضا بلا شعب مثلهم. وهم قتلوا وذبحوا ولا يزالون، مثلهم. وهم ”شعب مختار” لأرض موعودة، مثلهم. وهم يحملون ”هوية حضارية بديلة” كالرسالة المقدسة مثلهم.. هذه الرسالة لا تتوقّف بهم عندحدود احتلال الأرض، ومن الأرض لا تتوقّف عند حدود فلسطين.
إنّها الرسالة التي تدرك يقينا أنّها النقيض للوجود ”الحضاري” العربي، نقيض”الهوية” الحضارية العربية، إنّها “البديل” المرشح لتحويل العرب جميعا إلى هنود حمر.
ولسنا هنودا حمرا، لألف سبب وسبب يشعر به ويحسّه المواطن العربي من طنجة إلى البصرة. هذا الشعور والإحساس يولّد الرفض الشعبي الفطري، عقلا ووجدانا، للغزو الفكري الصهيوني لمصر وغيرها.
ولكن الرفض الفطري شيء، والمقاومة الواعية بحجم التهديد والغزو شيء آخر.. الرفض الشعبي اللاشعوري شيء، والمقاومة المخططة الإستراتيجية أمر آخر.
ذلك أنّ الرفض يظلّ عملا سلبيا، تتضاعف سلبيته جيلا بعد جيل، بتنازلات الأنظمة العربية عن الأرض العربية وخذلانها للشعب الفلسطيني.
أما المقاومة الإستراتيجية فهي وحدها التي تعي أنّ المراد الصهيوني لا يعرف ”الوسط”ولا التعايش، بل هو “البديل” لهويتنا الحضارية بمضمونها القومي. أي أنّ جوهر المعركة الثقافية مع “اسرائيل”هو النصر الكامل أو الهزيمة الكاملة. الوجود أو الإنقراض لأحد الطرفين. أما الأرض والإقتصاد و..و.. فهي تفاصيل ونتائج المقدمة..
محمد المحسن