اختر لغتك

القيروان تزهر حين يتكلم الورد بلغة الهوية

القيروان تزهر حين يتكلم الورد بلغة الهوية

في عمق البلاد التونسية، حيث تمتزج رائحة التراب بوهج الشمس وتروى الحقول لا بالمطر وحده إنما بالحكايات المتوارثة عبر الأجيال تنتصب القيروان كمدينة لا تسكنها الذكريات فحسب بل تصنع الذاكرة باستمرار، فهنا لا يختزل الزمن في مئذنة أو نقشٍ على جدار لكنه يزهر على شكل وردة، وردة لا تنبت اعتبارا لكنه تولد من رحم الأرض حين تحتضنها أنامل النساء، وترويها بعين المحبة وكفّ الصبر، القيروان إذن لا تحيا في نيسان كما في سائر شهور السنة بل تصير مع بداية الربيع كائنة أخرى تسترد وهجها وتكتب نفسها بعطر.

مقالات ذات صلة:

النادي الإفريقي يحسم المواجهة الثانية أمام الشبيبة القيروانية ويقترب من النهائي!

وزيرة الأسرة تؤكد من القيروان: رؤية اجتماعية متكاملة لضمان رفاه الطفل وكبار السن

في  مدينة الثقافة.. لحن القيروان يترنم بصوت الزين الحداد

ولعل ورد القيروان، هذا الكائن العطري المتواضع في شكله العظيم في أثره هو أفضل من يمثل هذه المدينة؛ فهو ليس مجرد نبات يزرع ويحصد لكنه هو سردية بكامل تفاصيلها حاضرة في وجدان الجماعة وفي وجوه نساء الخزازية وذراع التمار اللواتي ينهضن مع الفجر لا لقطف الزهر فحسب إنما لقطف ما تبقى من ذاكرة، من مجد عتيق، من حلم أخضر لا يذبل، وعليه فإن الاحتفال بهذه الوردة ليس فعلا موسميا عابرا وإنما طقس من طقوس الحياة وإعادة اعتبار لجمال بسيط لكنه شديد الرسوخ.

من هذا المنطلق، تنظم القيروان في أفريل 2025 دورتها الثانية من “مهرجان ورد القيروان” في محاولة لاسترداد هذا المجد العطري ولترسيخ حضور الورد لا كمنتج زراعي فحسب لكن كركيزة ثقافية واقتصادية واجتماعية، اذ تقام هذه الدورة تحت شعار "القيروان بأريج الورد" بين يومي 18 و20 أفريل بتنظيمٍ دؤوب من جمعية "مدينتي القيروان" وبدعم من ولاية القيروان، إلى جانب عدد من الشركاء المحليين والوطنيين ومن ضمنهم برنامج “PAMPAT” والمنظمات القطاعية الحكومية مثل المندوبيات الجهوية للفلاحة، الثقافة، السياحة، إلى جانب اتحاد المرأة التونسية.

وما يميز هذا الحدث هو التقاء أكثر من مسار في نقطة واحدة الاقتصاد، الثقافة، السياحة، الحرف اليدوية، التعليم، البيئة، وحتى التمكين الاجتماعي، فالورد هنا ليس غاية لكنه وسيلة لرسم خارطة جديدة للتنمية، ومن خلال تفاصيل المهرجا  يتضح أن التنظيم لا يقتصر على الاحتفاء بالورد في بعده الجمالي إنما يتجاوزه إلى ملامسة حياة الناس والارتقاء بها وتحويل الورد إلى محور جامع للطاقات والمواهب المحلية.

فعلى مستوى الزراعة، تمتد زراعة الورد القيرواني اليوم على مساحة تناهز 600 هكتار تنتشر بشكلٍ متقطع على أيدي أكثر من 200 فلاح أغلبهم من الفلاحين الصغار وتقدر المساحات المزروعة حديثا بنحو 100 هكتار إضافية ما يشير إلى تزايد الإقبال على هذه الزراعة التي تتطلب موارد مائية ضئيلة ومدخلات فلاحية محدودة مقارنة بغيرها من المحاصيل، وهذا ما يجعلها خيارا ذكيّا لاسيما في ظل التغيرات المناخية وننرة المياه، إذ إنها تمثل زراعة مقاومة بطبيعتها متكيفة مع الواقع وقادرة على الاستدامة.

لكن الأهم من كل هذا هو أن عملية الجني التي تمتد عادة من أواخر مارس إلى منتصف أفريل تخلق ما بين 30 إلى 40 يوم عمل سنويا جلها يسند للنساء الريفيات مما يجعل من ورد القيروان نقطة التقاء بين الجمال والعمل، بين الاقتصاد وتمكين المرأة وبين التراث والمعاصرة، فالمرأة هنا ليست مجرد عاملة في الحقل لكنها فاعلة رئيسية في دورة الحياة وصانعة للعطر والتاريخ معا.

أما على مستوى التحويل، فإن الورد يتحول بعد جنيه إلى سلسلة من المنتجات ذات القيمة العالية: ماء الورد، الهيدولات، الزيوت الأساسية، البتلات المجففة... وكل هذه المنتجات تجد سوقا واسعة في الصناعات التقليدية، التجميلية، الغذائية، وحتى الروحية ويجدر التذكير بأن أغلب وحدات التقطير لا تزال تدار بطريقة تقليدية لكنها بدأت في السنوات الأخيرة تتطور مستفيدة من الطلب المتزايد ومن التوجهات الجديدة نحو منتجات طبيعية وعضوية.

وإن كان الجانب الاقتصادي مهما، فإن الجانب الرمزي لا يقل أهمية، لذلك جاء المهرجان ليترجم هذه الحمولة العاطفية للورد في سلسلة من الأنشطة الثقافية والفنية التي تبدأ بندوات وورشات وتنتقل إلى الكرنفالات مرورا بالعروض الشعرية والمسرحية، والمسابقات، والمعارض المفتوحة في الخزازية وذراع التمار، كما وإن المهرجان لا يكتفي بعرض المنتوج إلا ينظم ورشات لتقطير الورد أمام الزوار ويشرك الأطفال في الرسم والنحت ويمنح الحرفيين فرصة عرض ابتكاراتهم ويقيم مائدة مستديرة حول تثمين المنتوج في الموروث الغذائي.

وفي هذا السياق، تتجلى الرؤية العميقة لجمعية "مدينتي القيروان" التي لا تنظر إلى المهرجان كمناسبة للفرح فقط إنما كأداة لبناء هوية جماعية معاصرة تستمد قوتها من الموروث وتعيد تشكيله بلغة العصر، فالجمعية التي تؤمن بالمسؤولية الاجتماعية والابتكار، والتنوع، والتعاون تسعى من خلال هذا الحدث إلى ترسيخ رؤية واضحة أن تكون القيروان مركز إشعاع ثقافي وتنموي وأن يتحول الورد من منتوج إلى مشروع حياة.

فليست المصادفة وحدها من جعلت القيروان تختار من قبل وزارة الفلاحة ووكالة النهوض بالاستثمارات الفلاحية كنموذج وطني لتثمين منتوجات الأرض، وإنما هي رغبة المدينة في أن تعيد تموقعها لا كتراث جامد لكن كفضاء حي يصنع اقتصاده من عبير ويمنح للعالم وجها آخر لتونس وجها ناعما، معطرا، مقاوما، ومتجددا.

إن مهرجان ورد القيروان هو أكثر من حدث، هو دعوة مفتوحة للتفكر في كيف يمكن لعطر بسيط أن ينعش اقتصادا، أن يلهم فنا، أن يرمم ذاكرة، ففي زمن يتراجع فيه الإحساس بالجمال يعود الورد ليقول كلمته الأخيرة ما يزال للعالم طهر يقطف وعطر يقطر، وحكاية تروى كل ربيع... من القيروان، من ترابها ومن نسائها.

آخر الأخبار

خراب متعلم

خراب متعلم

💥 4 تلاميذ ضحايا الإهمال: انهيار جدار معهد يُفجّر الغضب في المزونة!

💥 4 تلاميذ ضحايا الإهمال: انهيار جدار معهد يُفجّر الغضب في المزونة!

في قلب الغابة العجيبة... "فرحان المشاكس" يفتح أبواب الخيال أمام أطفال مدرسة الحرية بأريانة

في قلب الغابة العجيبة... "فرحان المشاكس" يفتح أبواب الخيال أمام أطفال مدرسة الحرية بأريانة

🏀 رسمي: الإفريقي إلى النهائي... قرار وزاري يحسم الجدل!

🏀 رسمي: الإفريقي إلى النهائي... قرار وزاري يحسم الجدل!

⚖️ قوافل قفصة ترفض إعادة لقاء النجم الساحلي وتلوّح بالتصعيد نحو "التاس"

⚖️ قوافل قفصة ترفض إعادة لقاء النجم الساحلي وتلوّح بالتصعيد نحو "التاس"

Please publish modules in offcanvas position.