تغيّرت ملامح المشهد السياسي في تونس في شكل جذري عما كانت عليه قبل 2011. برزت أحزاب جديدة واندثرت أخرى قديمة. وما زال كثير من التشكيلات الحزبية، التي يجدر اعتبارها مجموعات صغيرة أو مراكز ضغط، يُقاسي الأمرّين من أجل البقاء.
مع ذلك، يمكن القول إن الهيكلة التي انبنت عليها الحكومة الجديدة برئاسة يوسف الشاهد (من حزب «نداء تونس»)، كرست للمرة الأولى نظاماً شبيهاً بأنظمة الحزبين الكبيرين في بلدان أوروبية. فبعد حكومة «الترويكا»، التي حكمها حزب واحد (حركة «النهضة»)، أتت حكومة «الكفاءات» برئاسة مهدي جمعة (وكانت مؤلفة في غالبيتها من وجوه حزبية من الصفين الثاني والثالث)، ثم حكومتا الحبيب الصيد اللتان لم تعكسا الخريطة السياسية الجديدة التي أفرزتها انتخابات 2014.
ما من شك في أن الحكومة الحالية ليست حكومة الوحدة الوطنية المأمولة، بل هي حكومة محاصصات، إلا أنها عكست إلى حد ما استقرار المشهد الحزبي، على رغم الصراعات الداخلية التي ما زالت تهز أركان أحد القطبين الحاكمين. فحزبا «النهضة» و «النداء» استأثرا بالحصة الرئيس من التشكيلة الوزارية، وهما اللذان فرضا أيضاً اختيار أسماء المُستوزرين من الأحزاب الشريكة لهما في الحكومة، على نحو جعل توزيع الحقائب يقترب من خريطة التمثيل في مجلس نواب الشعب (البرلمان).
من هنا يجوز تسجيل أربعة ملامح جديدة أفرزها المشهد السياسي المُتحول، وهي التالية:
1- تكريس نموذج الحزبين الكبيرين، فمفتاح الحل والعقد اليوم، برلمانياً وحزبياً، يوجد في كف الحزبين الأولين، ولا مجال لأن يفرض الشركاء الصغار في الحكومة قراراً أو إجراءً لا يُوافق عليه الحزبان، وبعبارة أدق زعيماهما.
2- بروز اتحاد النقابات (الاتحاد العام التونسي للشغل) ككتلة سياسية إلى جانب باقي الكتل الحزبية، بعدما حاز حصة من الحقائب أسوة بالأحزاب السياسية، وهي المرة الأولى منذ فجر الاستقلال، التي يلعب فيها الاتحاد في الملعب السياسي في شكل واضح. وقد يكون لهذه الخطوة تداعياتها على صعيد تشكيل كتلة سياسية «عمالية».
وللتاريخ، شارك أربعة قياديين من الاتحاد في الحكومة التي شكلها الرئيس الحبيب بورقيبة في 15 نيسان (أبريل) 1956، وأتت تلك الخطوة في أعقاب وقوف الاتحاد إلى جانب بورقيبة في صراعه مع غريمه صالح بن يوسف. ثم شارك الاتحاد في قوائم «الجبهة الوطنية»، التي قادها الحزب الاشتراكي الدستوري، حزب بورقيبة، خلال الانتخابات البرلمانية التي أجريت في سنة 1981.
3- ترأست الحكومة الجديدة شخصية حزبية، وهو ما يُشكل استعادة لتجربة «الترويكا» في الحكم، غير أن لائحة الأهداف الحزبية التي يروم رئيس الحكومة الحالي تحقيقها، أقل بكثير من الأغراض التي حققتها «النهضة» وبدرجة أقل شريكاها الأصغران، على صعيد خدمة الأعضاء والمُحازبين. وهذا عنوان على ضعف ذهنية الدولة وقلة الإيمان بعُلوية مكانتها لدى كثيرين من النخب الحزبية.
4- هذه الخريطة ليست نهائية، على رغم تبلورها النسبي، فتبعثُر الأجسام المنبثقة عن الحزب الحاكم السابق يُشكل عنصراً مهماً في إضعاف أحد القطبين المتنافسين.
وفي هذا السياق، يُرجّح أن تفرز الانتخابات المحلية والبلدية المقبلة توازنات جديدة، خصوصاً أن طرفاً واحداً يُمشّط الآن البلاد مدينة مدينة وحياً حياً وقرية قرية، مع إمكانات مادية تكاد تكون غير محدودة، لضمان نجاح ساحق في تلك الانتخابات، بما يُكرّس ميزان قوى جديداً.
كان يتردَّدُ أن الحكومة الحالية ستستمر إلى 2019، وهو موعد الانتخابات العامة المقبلة، لكن المؤشرات الظاهرة من الاستعداد للانتخابات المحلية (2017 أو 2018)، تدل على أن هناك مفاجآت مقبلة ستعصف بكثير من التوازنات الراهنة، وتكرسُ خريطة جديدة تقتضي، ربما، مراجعة التشكيلة الحكومية.
* كاتب وإعلامي تونسي
رشيد خشانة