وسط ترحيب المكتب السياسي لحركة النهضة بمن أسماهم بالوافدين الجدد، وغالبيتهم من اليسار الإسلامي الذي لم يقطع علاقته بالحركة، يكون راشد الغنوشي قد بدأ في تجميع أوراقه وإعادة ترتيبها لينتقل إثر ذلك إلى لعب ورقة الانفتاح في التنظيم الإسلامي المنغلق أصلا كمكافأة منه للمناهضين لقيادته عبر ممارسة نوع من الضغوط واتباع سياسة الهروب إلى الأمام.
تونس - يرى مراقبون لشأن حركة النهضة في تونس أن “الشيخ” راشد الغنوشي بدل أن يفتح حوارا داخليا مع الجناح الغاضب ويخفف من حدة الاحتقان داخل الحركة، فضل “مكافأة” قيادات تاريخية متنفذة تنظيميا وسياسيا غاضبة بـ”تجميع كل الأوراق بين يديه” ومحاولة استقطاب المقربين من حركته ومن يدورون في فلك طائفته.
وكان المكتب السياسي الذي يستحوذ على قيادته الغنوشي بمعية المقربين منه قد أعلن أنه يرحب بـ”الوافدين الجدد” في خطورة أعطت مؤشرا على أن النهضة فضلت الترويج للانفتاح على الخارج أكثر من انفتاحها على قياداتها وكوادرها وقواعدها الغاضبة التي تطالب بـ”دمقرطة” الحركة وإشراكها في القرار.
ويتعلق الترحيب بالخصوص بما يعرف في تونس باليسار الإسلامي الذي كان قد انشق عن الحركة في أواسط الثمانينات من القرن الماضي وفي مقدمتهم محمد القوماني الذي كان يعد أحد أبرز القيادات الطلابية في الجامعة التونسية إضافة إلى أسماء أخرى.
ورأى محللون سياسيون أن محاولة الاستنجاد باليسار الإسلامي لا تحمل في الواقع أي جديد باعتبار أن الغنوشي يقود جهودا في مسعى لتلميع صورة القيادة الجديدة التي انبثقت عن المؤتمر العاشر للحركة.
وقال خليل الرقيق، المحلل السياسي والأخصائي في الجماعات الإسلامية، إن “الانفتاح المزعوم لا يحمل، سياسيا وعمليا، أي جديد باعتبار أن رموز اليسار الإسلامي بمن فيهم محمد القوماني لم يقطعوا علاقتهم مع النهضة بل على العكس من ذلك يدورون في فلكها وقاموا بدور مساند للنهضة زمن حكم الترويكا”.
ورأى الرقيق أنه “يمكن القول إن جزءا ممن يسمّى باليسار الإسلامي قد عاد إلى حظيرة النهضة”، مضيفا “ربما كان الغنوشي يعتقد أن ذلك يعد انتصارا على التيار المتمرد داخل الحركة وربما كان القوماني وغيره يعتقد بأن الحركة تطورت بشكل أغراه للعودة إليها”.
ويبدو أن خطوة الغنوشي، الذي ما انفك يروج لنهضة سياسية جديدة أكثر انفتاحا، زادت في تعميق حدة الاحتقان داخل الحركة، حيث تفيد تسريبات بأن القيادات الغاضبة رأت فيها “مكافأة” لها على تمرد الشيخ وضغطا عليها لثنيها على رفع صوتها أمام صوت الشيخ ومحاولة المس من مكانته.
وخلال الأيام الأخيرة لم يتردد عدد من القيادات الغاضبة وفي مقدمتهم عبدالحميد الجلاصي وعبداللطيف المكي في توجيه انتقادات مبطّنة لطريقة إدارة الغنوشي للحركة، مطالبة بتطوير التعاطي مع شؤونها.
وفي ظل فشل الغنوشي في إطفاء الحرائق داخل التنظيم الإسلامي بدأت سياسة الهروب إلى الأمام وكأنها الخيار الوحيد أمامه في مسعى لإحكام قبضته في إطار سياسة تقضي بخلط الأوراق باتجاه تهميش الإخوة الخصوم.
واعتبر خليل الرقيق أن الترحيب بالوافدين الجدد، سواء من اليسار الإسلامي أو من ذوي الميولات الإسلامية، “يؤشر إلى أن الغنوشي بات يلعب أكثر من ورقة سياسية داخل الحركة الإسلامية في إطار رؤية تقضي بتجميع كل الأوراق للضغط على خصومه والمتمردين عليه من جهة والترويج إلى نهضة منفتحة على المشهد السياسي المتعدد فكريا وسياسيا من جهة أخرى”.
غير أن الرقيق شدد في تصريحه لـ”العرب” على أن الغنوشي “يسعى إلى إقناع القوى السياسية والمدنية العلمانية واتجاهات الرأي العام، بأنه يقود نهضة قادرة على استقطاب روافد جديدة، والحال أن الحركة منغلقة على نفسها بل وتشهد حالة من الاحتقان الداخلي”.
ويتساءل سياسيون عن مدى جدية وصدقية سياسة الاستقطاب والانفتاح على اليسار الإسلامي وعلى فئات أخرى من المجتمع مثل المرأة غير المتحجبة والشباب والحال أن النهضة منطوية على نفسها، مشددين على أن جهود الغنوشي ليست سوى “لعبة انفتاح تمويهية داخل نهضة منغلقة”.
وبرأي السياسيين والمراقبين، فإن نزيف الاستقالات التي شهدتها النهضة خلال السنوات الماضية، سواء منها التي طالت القيادات والكوادر أو التي طالت جزءا من القواعد، تفرض على الغنوشي إطلاق حوار داخلي غير أنه فضل مواصلة سياسة التهميش وصفع الغاضبين بدل الإصغاء إلى أصواتهم.
غير أن الرقيق قال إنه “في كل الحالات يبدو أن النهضة هي المستفيد من محاولة استقطاب اليسار الإسلامي كرافد جديد قديم”، ملاحظا أن “القاعدة في السياسة كما في الطبيعة تقول إن الجسم القوي هو الذي يبتلع الجسم الضعيف”.
وقلل الرقيق من أهمية مراهنة الغنوشي على “إقناع التونسيين بأن النهضة تغيرت جذريا وأنها تحولت إلى حزب سياسي مدني مثلما يروج لذلك قائدها راشد الغنوشي”.
وقال خليل الرقيق إن “الغنوشي الذي عجز على ترويض الغاضبين وإرضائهم كافأ تمردهم بمحاولة تجميع كل الأوراق بين يديه، ليجعل من الترويج إلى الانفتاح سلاحا يعزز به سطوته داخل النهضة المهزوزة”.