خبراء يؤكدون أن على الحكومة التونسية أن تطلق حوارا اجتماعيا حقيقيا مع كافة الأطراف النقابية والأعراف لتجاوز أزمة الاعتصامات الحاصلة في البلاد.
تونس- تعيش تونس منذ سنوات حالة غضب وشجب حيث باتت الاعتصامات والإضرابات، العشوائية والمنظمة، الخيط الناظم لجغرافيا البلاد من أقصى الجنوب إلى أطراف الشمال ومن تخوم المحافظات المنسية في غياهب الحدود مع الجزائر وليبيا وصولا إلى الشريط الساحلي، الذي انخرط في منظومة الرفض للحكومات المتعاقبة بسبب تردي مستوى المواسم السياحية في أعقاب الإرهاب وسياسة الاقتراض المفتوح.
ولم تكشف الدولة عن حقها في تعميم النظام وملاحقة المتسببين في تعطيل عجلة التنمية والاقتصاد -وهو التعطيل الذي قد يعرف في البعض من الأحيان إفراطا في الاستعمال والاعتماد- ومقاضاة الواقفين وراء الإضرابات العشوائيّة، إذ لم يظهر هذا على سطح الأحداث إلا عقب استنزاف الدولة لكافة مواردها المالية وإشرافها على الإفلاس وإعلان عجزها عن تمويل ميزانية 2017.
وأدت سياسة التداين المعتمدة من طرف حكومات ما بعد 2011 إلى تأجيل المواجهة بين جبهة الرفض والإدارة الرسمية إلى حين وأخبت شيئا من الصراع، غير أنّ جذوة الصدام كانت قائمة بين الطرفين ولم تنجح الإجراءات الترقيعية في تأمين سلم مجتمعي حقيقي مبني على العدالة الاجتماعية والحقوق الاقتصاديّة. وكانت إجراءات حكومة يوسف الشاهد، القاضية بإلغاء الترفيع في الأجور لسنتين متتاليتين مقابل الزيادة في الأداءات والضرائب على الطبقة المتوسطة ورفع الدعم عن بعض المواد الأساسيّة والتجميد شبه المعلن عن الانتداب في الوظيفة العموميّة، قد أدّت بالتململ إلى بلوغ أقصاه، ما مثّل دافعا إلى تحركات احتجاجية في البعض من المحافظات والقطاعات سيّما تلك التي تشكو من مشاكل هيكلية عميقة وتعاني من سوء الإدارة ومن استفحال الفساد في دوائر اتخاذ قرارها.
وقد شهدت تونس اعتصاما لعمّال وإطارات الشركة التونسية لصناعة الإطارات المطاطية الذين نفذوا وقفة احتجاجية أمام مقر محافظة سوسة الساحلية على خلفية ما وصفوه بالفساد الناخر للشركة التي باتت اليوم على بوابة الإفلاس والإغلاق وهو المصير نفسه الذي كادت تعرفه شركة بتروفاك البريطانية للخدمات النفطية والتي تعطّل إنتاجها في حقل نفطي بجزيرة قرقنة 9 أشهر كاملة بسبب اعتصام العمال. وحاولت الحكومة التدخّل للتوصل إلى إبرام اتفاق ثنائي مع الشركة التي غادرت البلاد بشكل كليّ ما اضطر البلاد والعباد إلى دفع الفاتورة غاليا، سيّما وأنّها تؤمّن جزءا معتبرا من الحاجيات الوطنية للمحروقات حيث أنّ تونس باتت طيلة فترة التوقف رهينة لتدفق النفط من الجارة الجزائرية في حين أنّ نفطها الوطني عالق في الآبار العميقة.
وكانت الثروة الطبيعية التي تجسدها شركة الفسفاط بمدينة قفصة كبرى مدن الجنوب التونسي مدار صراع قوي بين الإدارة المركزية من جهة والأطراف الاجتماعية من جهة ثانية على خلفية عدّة مطالب ملحة تبدأ من ضرورة استفادة المحافظة من ريع منتوجها واستيعاب الشركة لطالبي الشغل من أبناء الجهة في مقابل عجز الفاعل الرسميّ عن استيفاء كافة المـــطالب الاجتماعية، وهو ما أفضى في المحصلة إلى توقّف إنتاج الفسفاط لأشهر عديدة. ورغم تدخّل الحكومة الجديدة في الملفّ فإن الإنتاج عاد جزئيا دون تـوزيع لباقي محطات الإيفاد وإيداع الفسفاط بالدولة.
وأفرزت التكلفة الجملية لمواسم الاعتصامات والاحتجاجات خسائر جسيمة تتحمّلها المجموعة الوطنية برمتها ذلك أنّ أكثر من 400 مؤسسة صناعية محلية وأجنبية أغلقت أبوابها بعد أن أصبحت عاجزة عن الإنتاج وتحقيق الربح المادي فيما تؤكد المصادر المالية أنّ 90 بالمئة من الشركات الأجنبية عرفت عقب الثورة تراجعا كبيرا في مستوى الإنتاجية.
وكان قرار الشركات والمؤسسات الأجنبية الهجرة من تونس باعتبارها بلاد الاعتصامات نحو بلدان أخرى أكثر استقرارا في المشهد السياسي وأكثر تأمينا لمفهوم السلم الاجتماعيّ سواء من حيث المطلبية الاقتصادية للعمّال أو من حيث قدرة الدولة على تطوير المنظومة القانونية في الاستثمار والتنمية. وأكدت الأرقام الرسمية أنّ المؤسسات الإيطالية تصدرت قائمة الشركات الأجنــــبية الراحلة من تونس بـ63 مؤسسة تليها الشركات الفرنسية بـ36 مؤسسة، ومن ثم بلجيكا بـ11 مؤسسة.
وتكررت عقب الخسائر الجملية للاحتجاجات مطالبة كافة رؤساء الوزراء انطلاقا من المهدي جمعة إلى الحبيب الصيد وليس انتهاء بيوسف الشاهد بضرورة وقف الاعتصامات والانخراط في هدنة اجتماعية لفتت إلى أنّ تكلفة الغضب الاجتماعي في تونس تجاوزت سقف المليارات من الدينارات. والحقيقة التاريخية التي لا بدّ من الإقرار بها هي أن تونس شهدت من قبل انتفاضات شعبية على خلفية مطالب تشغيل أو رفض لغلاء المعيشة، من ذلك أحداث الخبز في يناير 1984، خلال فترة حكم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، والتي عرفت بواكيرها في الصدام الاجتماعي بين الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظومة الحكم البورقيبي.
وأوضحت أن ثورة يناير 2011 إرهاصاتها التباين بين الفاعل الاجتماعي والتنفيذي عقب وصول الملف الاقتصادي الاجتماعي في البلاد إلى مرحلة الانسداد المطلق والكامل. وجاءت احتجاجات وأزمات 2016 لتكشف عن عجز كافة منظومات الحكم السياسي في تونس عن تسوية الملف الاجتماعي أو الإبقاء عليه في مستوى السيطرة والإدارة. ويجمع الخبراء على إمكانية حدوث احتجاجات جديدة في شتاء 2017 سيّما وأنّ عدد العاطلين عن العمل في تونس يبلغ اليوم أكثر من 700 ألف من طالبي الشغل فيما أبواب الانتداب في الوظيفة العمومية والخاصة موصدة أمامهم.
ويلفت الخبراء في هذا السياق الاجتماعي إلى استحالة تسلّح الدولة بالمسلكية الأمنية للوقوف أمام مسلسل الاعتصامات الحاصلة حاليا والتي قد تندلع مستقبلا أو اعتماد المقاربة القانونية ضدّ الإضرابات القطاعية والمناطقية الرابطة بين مختلف الجغرافيا الوطنية. ولتجاوز هذه الأزمات وجب بالضرورة اعتماد المنهج الشمولي في التعاطي مع الظاهرة باعتماد الإجراءات الحينية والمتوسطة والبعيدة وإطلاق حوار اجتماعي حقيقي مع كافة الأطراف النقابية والأعراف مع الاستفادة من الشركاء الماليين خاصة وأنّ تونس على أبواب مؤتمر دولي للاستثمار قد يساعدها في تخطي سياسة التداين من الهيئات المانحة للأموال والمسؤولة عن السيادات.
كاتب من تونس