توانسة-خاص: إن ما يلاحظ اليوم من الحيرة والتساؤلات التي لا تني تطرح نفسها على عقول الشباب الذي قام بالثورة وينتظر قطف ثمارها يجعلنا نطرق موضوعا مهما ألا وهو التثقيف السياسي عند هؤلاء الشباب ومدى معرفتهم بفسيفساء الساحة السياسية في تونس- وهنا نشير إلى تجاوز عدد الأحزاب التي حصلت على تأشيرة ممارسة نشاطها السياسي وهو قد فاق المائة حزب- فهل هذا الشباب قادر على التمييز بين جميع هذه الأحزاب وفهم توجهاتها الإيديولوجية وبرامجها السياسية؟ وهل هو على قدر من الوعي السياسي لاختيار أحد هذه الأحزاب والتصويت لها عن دراية وفهم؟ أم إن الأمر سيكون عند هذه الفئة العريضة من المجتمع مجرد رد انفعالي تتحكم فيه التنشئة الاجتماعية أو الولاءات العائلية والعشائرية أو التأثيرات التي تحصل من الأصدقاء؟
إن الشباب اليوم من حيث الفئة العمرية هو الشباب الذي ولد مع بدايات الزمن البائد وفترة حكم المخلوع وهذا الشباب الذي درس بالجامعات التونسية لم يجد الجامعة كما كانت من قبل فضاء للتثقيف السياسي والتنوع الإيديولوجي وإنما وجد جامعة لا روح فيها حيث تمكن النظام البائد من القضاء على العمل السياسي داخل أسوار الجامعات -بما أنها كانت المعبرة عن نبض الشارع بكل أطيافه- وكان ذلك يوم الأربعاء 8 ماي سنة 1991 حيث تحولت الجامعة التونسية بعد ذلك إلى فضاء للحفلات و"الجلاوات" ولم يعد للعمل السياسي وجود وقد خطط نظام المخلوع لجعل هذا الشباب عنوانا للميوعة والبحث عن الترفيه وسجنه في إطارهما ونجح إلى حدّ ما وقد أصبح الكلام في السياسة بالنسبة إلى هؤلاء الشباب خطا أحمر وأضحى الأمر عنده لامبالاة وعدم اكتراث.
مما يلاحظ أيضا هو غياب مفهوم السعي للمعرفة والمطالعة للكتب والمؤلفات ذات الطابع السياسي إن لم نقل إن علاقة هؤلاء الشباب بالكتاب أصبحت معدومة نظرا لغياب دور نشر توفر هذا الكتاب بأثمان في متناول القارئ وكذلك عدم قدرة هؤلاء الشباب على الاستفادة من الكتاب الالكتروني الذي وفرته له تكنولوجيات الاتصال الحديثة بما أنهم يطلقون على أنفسهم أبناء الانترنت وعالم الاتصالات الحديثة وقد ساهموا من خلال هذه التقنية في قيام الثورة وهذا يحسب لهم، لكن أين موقعهم اليوم من الخارطة السياسية المتنوعة التي تشهدها الساحة التونسية ما بعد 14 جانفي؟ أي مكان سيختارون؟ ولمن سيصوتون؟ رغم أن الإقبال على التسجيل لانتخابات أكتوبر يبرز مدى التململ الحاصل بين فئة الشباب وهو في نظري نابع من عدم القدرة على التمييز بين الطروحات التي تضعها الأحزاب السياسية أمامه حينا وكذلك ضعف الثقافة السياسية والتكوين الإيديولوجي والثقافي حينا آخر.
السؤال الموجه إلى شباب 14 جانفي هو أين سيكون موقعه من الحياة السياسية اليوم في ظل هذه الفسيفساء الحزبية؟ وهل هو قادر على الاختيار الأحسن والأفضل لمن يمثله مستقبلا؟ أم سيكون "كما تكونون يُوَلَىّ عليكم"؟ وما هو دور الأحزاب السياسية في مجال التثقيف السياسي لهؤلاء الشباب أم سيكونون مجرد رقم في حساباتهم الانتخابية ولا قيمة لفكر هؤلاء الشباب وقدرتهم على التمييز بين الغثّ والسمين؟
قد يعتبرني البعض أتجنى على فئة الشباب وأنا واحد منهم ولكني عايشت فترة أواخر الثمانينات وبداية التسعينات من القرن العشرين في الجامعة التونسية وعلمتني الكثير وقد توفر لي لم يتوفر لشباب اليوم ولكن إضافة إلى ذلك كان للتكوين الذاتي دور في وضوح الرؤية سياسيا وإيديولوجيا.. فهل سعى هذا الشباب إلى تكوين ذاته سياسيا وثقافيا حتى يمتلك زادا معرفيا يمكنه من التمييز وتحديد الوجهة التي سيقصدها في الانتخابات دون ولاءات أو ميولات عاطفية تجاه هذا الحزب أو ذاك؟
نحن من عايشنا الجامعة التونسية في انتصاراتها ونكساتها تثقفنا سياسيا وفكريا وإيديولوجيا وعايشنا كل الأطياف السياسية والإيديولوجيات اليمينية واليسارية وتعايشنا معها في إطار الحوار البناء المثري والمفيد ولكن شباب اليوم ومن خلال ما أراده له نظام المخلوع قد سُيِّسَت ثقافته وكانت خادمة لسياسة النظام البائد وأساسها التعبد في محراب الزعيم الأوحد والحزب الواحد والتسبيح بحمدهما.
إن شباب اليوم مسؤوليته كبيرة لتحديد اتجاه بوصلته على الساحة السياسية والفكرية والثقافية إن أراد أن يكون بحق شباب الثورة ثورة الحرية والكرامة ولا كرامة للإنسان دون تحرير ثقافته وفكره.