اكيد ان قرارات المقاطعة لقطر ديبلوماسيا واقتصاديا وفي حركة الاشخاص والنقل خاصة من السعودية والامارات ومصر مثلت زلزالا وصلت ارتداداته كل العالم، ولئن صدرت المواقف من هنا وهناك وتفاوتت بين الوضوح والغموض وبين القوة واللين فان عديد الدول والاطراف اثرت الصمت واحتفظت بصوتها، ولئن تحفظت قطر على مستوى اعلى قرار ولم تصدر سوى موقفا "معتدلا" نافيا لما نسب اليها من اتهامات، فان في تونس كان موقف المرزوقي من الاوائل الذين اندفعوا لنصرة قطر والهجوم على الامارات، موقف اثار كالعادة جملة ردود افعال متباينة متماهية من الانصار ومستهزئة مناوئة مشيطنة من الجوقة المعادية، وغابت بين هذا وذاك التحاليل الرصينة العقلانية المبنية على قواعد العلاقات الدولية.
المرزوقي اراد ان يظهر الاول في ابداء موقف صنّفه او هكذا تراءى له بانه "مبدئي" "اخلاقي" قبل كل شيء، اي دون حسابات ولا اعتبارات المصلحة وتعداد ارقام الربح والخسارة، وظهر في موقفه مباشرا حاسما دون تردد او غموض او تورية او اشارات وسمى الاشياء باسمائها، معتبرا ان الامارات منخرطة في المخطط الاسرائيلي وقائدة وممولة الانقلاب المصري وبقية الثورات المضادة، معبرا عن نصرته لقطر داعيا التونسيين لـ"الوقوف مع قطر" حتى تتكسر الاسنان الاماراتية.. واضعا قطر في محور المدافع عن القضية الفلسطينية ونصرة "النفس التحرري" مبررا عدم ديمقراطيتها بـ"ظروف خاصة"، مثنيا على موقفها الداعم للثورات وعلى تكريسها "تحرير العقول العربية" عبر قناة "الجزيرة".
والامر لم يتوقف عند هذا الحد بدعوة الحكومة التونسية بوقوف تونس الى جانب دولة قطر واحتجاجها على "محاولة عزل وخنق قطر"، واضعا "المعركة" بين "قوى الخير وقوى الشر" وفي "مخطط تصفية الثورات العربية"، ويتضح من المصطلحات المستعملة وردة الفعل الغاضبة والسريعة ان الموقف شخصي يلزم المرزوقي، وليس بالتحديد موقف حزبه الذي لم يصدر بيانا في الخصوص ولازال يراقب الاوضاع (ولم ينشر تدوينة رئيسه مثل العادة على صفحته الرسمية على الفايسبوك)، والمرزوقي نشر موقفه عبر تدوينة على حسابه "فاسيبوك" الشخصي (الرسمي) ولم يذيلها بصفته الحزبية.
ما يجدر ملاحظته في البداية هو انسياق المرزوقي في نفس مواقفه السابقة التي ظل "وفيا" لها، ويبدو انه لم يقم باية مراجعات في الخصوص ولم يغير طريقته السريعة الانفعالية في اصدار المواقف، وخاصة هذا الموقف الذي طغت عليه النزعة الشخصية فضلا عن جملة من التناقضات اضافة الى تعارضه مع المبادىء في السياسة الدولية، وان كان تحليله للامارات نتفق فيه معه حول ارتباطها بالكيان الصهيوني وتخريبها الثورات وقيادتها الانقلابات، فان تقديره لقطر طغى عليه الانطباعية وافتقد للموضوعية وبدا غير مؤسس في عمومه.
فدعم قطر للثورات العربية وخاصة تونس كان نسبي وايضا دفاع "الجزيرة" عن حرية التعبير ونفس الشيء بالنسبة للدفاع عن القضية الفلسطينية، فقطر دعمها للثورات العربية عبر "الجزيرة" او عبر مواقفها السياسية او عبر مساعداتها المالية والاستثمارية محل نقاش وجدل وليس مسلم به كما اراد الرئيس السابق تمريره، وفي مقابل الموقف السعودي والاماراتي واضح المناهضة للثورات العربية قطر اختارت العكس ولكنه يظل موقفا سياسيا، يتنزل في خط الظهور بمظر الداعم للديمقراطيات وحقوق الشعوب وتحررها للظهور بالانتماء لهذا الخط، لامتصاص ما يمكن ان ينجر من امكانيات الانتفاضة الداخلية ولو ان الواقع يناقض ذلك اذ قطر لم تكن يوما ديمقراطية.
المرزوقي اراد عبثا تبرير ذلك بكلمة "لظروفها الخاصة" وهو تبرير تعويمي، اذ كل الاقطار الديكتاتورية والسلطوية تدعي تجنب الديمقراطية بـ"الظروف الخاصة"، وهو تبرير شنيع للديكتاتوريات سقط فيه المرزوقي ولم يُسبّق المبادىء والقيم على "الواقع"، خلاف ما حرص على اظهاره في موقفه بان اندفاعه كان مبنيا على المبدئية والصدق، وفي نفس السياق حول "الجزيرة" التي بقدر ما "حررت العقول العربية" وطرحت القضايا الجريئة، فقد سقطت في عدم نقد قطر التي تعتبر خطا احمر لا يمكن انتهاكه، كما انها طبّعت مع كلمات "اسرائيل" والتواجد داخل فلسطين المحتلة (48) وسمحت للصهاينة بالتحدث عبرها وكانت الاولى في التطبيع الاعلامي مع المحتل، كما لا يخفى على احد ان "الجزيرة" في اساسها كانت احد الادوات الاستراتيجية للهيمنة القطرية.
المرزوقي طالب الحكومة بتبني الموقف القطري بـ"الاحتجاج" ضد من حاولوا "عزلها" و"خنقها"، مكرسا بذلك استمرار منطق المحاور والانحياز والتخندق والدخول المجاني في المعارك، وهو ما سيلحق بتونس مضار جسيمة لا يمكن حساب فداحتها، معبرا بذلك عن موقف خاص ذاتي فيه "رد جميل" ربما للدولة القطرية التي فتحت له ابواب الاعلام ودعمته سياسيا ايام حكم "الترويكا"، وابتعد عن الموقف المتزن الذي يزن الامور بميزان القيم والمبادىء مع اعتبار الحقوق والمصالح الوطنية العليا وتقدير المخاطر عن كل قرار او فعل، فحقيقة الصراع بين قطر والامارات لا يمكن تنزيله في النهاية الا في اطار صراع هيمنة ونفوذ وتموقع ومصالح، وبالتالي دخولنا فيه دون ادوات ودون غايات سامية ودون الاخذ بعين الاعتبار مصلحة تونس سيغرقنا في مطبات لا تنتهي، وسيزيد في الاستقطاب والتطاحن العربي ويوسع دائرة التنازع والتناحر.
المرزوقي بذلك لا يزال على خطه الاندفاعي الذي لا يقيس الامور بمنطق "الاوطان"، الذي يختلف عن موقف "الاشخاص" و"الذاتية" و"الفردية"، منطق الاوطان الذي يحسب كل تصرف وانعكاساته العامة الحالية والمستقبلية دون اهمال القيم والمبادىء، وليس منطق الانطباعات والمشاعر والصداقات والعلاقات الحميمية، وهذا المنطق المختل في منطق العلاقات الدولية والاستراتيجيا ينقله المرزوقي بالعدوى لانصاره ومريديه، ويرسّخ لديهم اليات تحليل مجتزئة انفعالية متشنجة في عدة احيان لا تقوم على الحساب والاستشراف والبراجماتية في علاقة بالمبادىء والحقوق.
كما انه من حيث معيار المبادىء والقيم قطر لم تكن نصيرا مبدئيا للقضية الفلسطينية، واذ تأوي على اراضيها قيادات حماس وتدعم حركتهم بالاضافة لحزب الله، فهي تقيم علاقات متطورة مع الكيان الصهيوني واستقبلت اواسط التسعينات شيمون بيريز احد اكبر البرابرة المتوحشين بتاريخه الدموي، وهي في استراتيجيتها العامة تجمع كل المتناقضات من اجل ضمان توازنها وتحقيق موقع ونفوذ اقليمي ودولي تطمح لتحقيقه، يأتي في المرتبة الاولى قبل كل الاعتبارات.
كما ان قطر تدخلاتها كانت كارثية في الساحة الليبية التي دمرتها بالكامل مع الة الحلف الاطلسي، ولم يبق فيها اليوم سوى الخراب والحرب الاهلية والتناحر والدمار، ونفس الشيء حدث في سوريا التي تشرد اغلب شعبها ومات منه عشرات الالاف، ولم يسلم منها الشعب اليمني بمشاركتها الخلف السعودي في الهجوم عليه، وهو نفس الشيء الذي حصل ضد العراق في سنة 1991.
صحيح الامارات عدو ظاهر بالنسبة لتونس يتدخل عبر عديد الاليات في شأننا الداخلي، ويريد ان يفرض سياساته ورجالاته واعلامه ويقوض امكانيات الانتقال للديمقراطية، وهو خطر كبير على السلم العام والاستقرار والسيادة الوطنية والمصلحة العليا، ولكن انخراطنا في مواجهة دبلوماسية او سياسية معه سيكون شديد الخطورة، والمواجهة في هذه الحالة لا يجب ان تكون معلنة ومشهرة، كما ان قطر ليست بذلك الحمل الوديع الذي يجب الدخول لاجله في معركة مهما كان نوعها، فهي تحلل وتحسب بمنطق المصالح والنفوذ ولا تختلف في عديد الاشياء عن الامارات والسعودية، وخاصة بانعدام السيادة على اراضيهم بتركيز قواعد عسكرية امريكية مباشرة وخفية على اقاليمهم.
انخراط واصطفاف واضح في المحور القطري، بطريقة لا تدل على استقلالية واضحة، وموقف ظهر تابعا متماهيا مع النظام القطري، لا ندري ان كان المرزوقي رئيسا للدولة واتخذه رسميا ماذا يمكن ان تخسر منه تونس، خاصة وان هذه الدول قد تحسم خلافاتها بطريقة او باخرى وعبر التسويات، ويظل الموقف التونسي المعادي لمصر والسعودية والامارات نقطة سلبية في تاريخ العلاقات الثنائية، وقطر الحقيقة بقدر مساعدتها (النسبية) لتونس لا تستأهل ان نعادي لاجلها ونشهر بسببها المواجهة المدمرة، والمرزوقي كما في عدة حالات اذ يخرق القواعد السياسية فهو لا يكترث للحملات التشويهية التي تتصيد زلاته واخطائه لتضخمها.
العلاقات الدولية بقدر ما تقوم على المبادىء والقيم والحقوق والسلم والشرعية الدولية، فهي تقوم على الحياد والتحفظ وعدم الانخراط المجاني في الصراعات والنزاعات الدولية بمخاطرها العالية، كما تقوم على البراجماتية والسيادة الوطنية التي ترفض الاصطفاف والتبعية، وايضا تقوم على المصلحة الوطنية العليا التي تقدر بالحكمة والتأني، بعيدا عن الانفعال او "رد الجميل" او الصداقات والمشاعر الشخصية!!
(*) قانوني وناشط حقوقي