في 10 أكتوبر 2019، خسر الفن العربي واحداً من أبرز مخرجيه وأكثرهم إبداعاً، شوقي الماجري، المخرج التونسي الذي أضاء عالم الدراما والسينما بأسلوبه الفريد ونظرته العميقة. توفي الماجري فجأة إثر أزمة قلبية في القاهرة عن عمر ناهز 58 عامًا، ليترك وراءه إرثًا فنيًا عظيمًا سيظل محفورًا في ذاكرة السينما والدراما العربية.
مقالات ذات صلة:
تحقيق في تهديدات بالقتل ضد مخرج حفل افتتاح أولمبياد باريس 2024
تكريم الفنانة والمخرجة التونسية دليلة مفتاحي في مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي
طفولة ونشأة واعدة
ولد شوقي الماجري في 11 نوفمبر 1961 في حي باب سويقة الشعبي بالعاصمة التونسية. تربى في بيئة غنية بالتنوع الثقافي والاجتماعي، تلقى تعليمه الابتدائي في مدرسة نهج المشنقة، ثم واصل مسيرته التعليمية بالمعهد الصادقي العريق. ورغم بيئته التونسية المحفزة، كان طموحه أوسع من حدود بلده، فسعى لتحقيق حلمه الفني خارج تونس.
الانطلاقة في بولندا: من تونس إلى العالمية
في عام 1984، خطا شوقي الماجري أولى خطواته نحو العالمية حين قرر الانتقال إلى بولندا لدراسة الإخراج السينمائي. انضم إلى المعهد الوطني للسينما والمسرح والتلفزة في وودج، وهي واحدة من أعرق المدارس السينمائية في أوروبا. حصل على درجة الماجستير في السينما، حيث أبدع في إخراج أفلام قصيرة مثل La Poste وThe Smell of Islam وOrliano وClé de sol. تلك الأفلام القصيرة لم تكن مجرد بدايات، بل كانت تجليًا لموهبته الفذة، ما جعله محط أنظار المنتجين في العالم العربي.
التألق في الدراما العربية
لم يكتفِ شوقي بإتقان فن السينما فحسب، بل دخل عالم الدراما من أوسع أبوابه. في منتصف التسعينيات، أخرج مسلسل أخوة التراب بجزئه الثاني، والذي كتب نصه الكاتب السوري حسن يوسف. هذا العمل كان البداية لتألقه في الساحة الفنية العربية، حيث أظهر الماجري موهبته في التعامل مع النصوص التاريخية والمعاصرة بمهارة استثنائية.
في عام 2001، أخرج شوقي الماجري مسلسل الأرواح المهاجرة، المقتبس عن رواية بيت الأرواح لإيزابيل أليندي. ورغم تعقيد الرواية، استطاع الماجري نقل عمق النص إلى الشاشة بأداء إبداعي نال إعجاب الجمهور والنقاد على حد سواء.
"الاجتياح": جائزة إيمي والإبداع بلا حدود
من بين أبرز أعماله، يبقى مسلسل الاجتياح الذي تم إنتاجه في عام 2002 علامة فارقة في مسيرة شوقي الماجري. يحكي المسلسل عن الاجتياح الإسرائيلي لجنين، وقد حاز العمل على جائزة إيمي العالمية عن فئة المسلسلات الطويلة، ليكون هذا الإنجاز شهادة عالمية على إبداع الماجري في سرد قصص المقاومة والإنسانية.
التاريخ والدين في قلب الدراما
تميز شوقي الماجري في تقديم الأعمال الدرامية التاريخية، حيث أخرج مسلسل عمر الخيام في 2002، وهو عمل تاريخي غني بالتفاصيل. كما أخرج أبناء الرشيد في 2006، الذي نال الجائزة الذهبية في مهرجان القاهرة العربي. أما مسلسل أبو جعفر المنصور في 2008، فقد تناول فترة حكم الخليفة العباسي بأسلوب مشوق ومتميز.
"مملكة النمل": السينما في خدمته الإنسانية
لم يقتصر إبداع الماجري على الدراما التلفزيونية فحسب، بل قدم عمله السينمائي الأول مملكة النمل في 2012. كان هذا الفيلم بمثابة ملحمة درامية تروي معاناة الشعب الفلسطيني، وتحاكي حياة ثلاثة أجيال من الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الأرض في السراديب. كان الفيلم نموذجًا للإبداع السينمائي الذي يجمع بين الخيال والفن والواقع المؤلم.
التحدي المستمر في الدراما المعاصرة
واصل الماجري تحدي الصعاب والعمل في أكثر البيئات الدرامية تعقيداً. ففي عام 2014، أخرج مسلسل حلاوة الروح، الذي لقي نجاحًا كبيرًا. كما أخرج سقوط حر في 2016 ودقيقة صمت في 2019، حيث أبدع في تصوير العواطف المعقدة والصراعات النفسية العميقة.
وداعًا مفاجئًا: وفاة الماجري وتركه إرثًا لا يُنسى
في فجر يوم 10 أكتوبر 2019، غادر شوقي الماجري عالمنا إثر أزمة قلبية مفاجئة في القاهرة، حيث تم نقله إلى المستشفى ليتم إعلان وفاته. كانت وفاته صدمة لعشاق الفن السابع في العالم العربي، لكن أعماله الخالدة تظل تروي قصة مخرج لم يتوقف عن الإبداع لحظة واحدة.
برحيل شوقي الماجري، فقدت الساحة الفنية مبدعًا قلما يجود الزمن بمثله. ترك بصمة واضحة لا تُمحى في الدراما والتلفزيون والسينما العربية، وهو مخرج فذ جعل من الفن سلاحًا للحديث عن القضايا الكبرى والإنسانية.
إن شوقي الماجري لم يكن مجرد مخرج تقني بارع، بل كان صاحب رؤية فنية جريئة، قادرة على اختراق الحواجز الجغرافية والزمنية، ليظل اسمه محفوراً في ذاكرة الفن العربي والعالمي.