حاتم الحشيشة: على خشبة الحياة.. مخرجٌ يبحث عن روح المسرح
في زاوية الركح، حيث تمتزج الظلال مع الأضواء، يقف حاتم الحشيشة كقائد أوركسترا صامت، يكتب تفاصيل الحياة على خشبة ضيقة تتسع لآلاف الحكايات. لم يكن المسرح يوماً مجرد مهنة أو وسيلة لإيصال الأفكار بالنسبة له، بل كان فضاءً فسيحًا لاختبار إنسانية الإنسان، وجسرًا بين الواقع والحلم، بين الأسئلة والإجابات التي قد لا تأتي أبدًا.
مقالات ذات صلة:
"حاتم الحشيشة يُخرج المشهد التاريخي في مسرحية 'صفاقس1881' ببراعة فنية"
"أيام قرطاج المسرحية" تقدم "جرد موظف": رحلة في عمق الروتين اليومي بين الكوميديا والدراما
"الجولة الأخيرة" في دار الثقافة البشير خريف: مسرحية تُبهر الحواس وتغني الروح
حاتم الحشيشة، ذاك الفنان الذي لا يهادن التفاصيل، بنى اسمه بعرق السنين ووهج الشغف. لم يكن طريقه إلى الخشبة معبّدًا، لكنه كان مليئًا بالخطوات الثابتة، تشبه تمامًا خطوات الممثلين الذين يدربهم على أن يجعلوا المسرح امتدادًا لذواتهم. في كل عملٍ يقدمه، يبدو حاتم وكأنه يسائل الوجود نفسه: من نحن؟ ما الذي يجعلنا بشراً؟ وكيف يمكننا أن نحول آلامنا اليومية إلى لغة يتحدثها الركح بفصاحة وصمت؟
صانع الأسئلة.. لا الأجوبة
حاتم الحشيشة ليس ممن يقدمون الأجوبة الجاهزة في أعمالهم. بالنسبة له، المسرح لا يجب أن يُطمئن الجمهور، بل أن يهزه، أن يضعه في مواجهة ذاته دون وساطة. في مسرحياته، يظهر البطل الذي يعاني من صراعات وجودية، والمهمش الذي يبحث عن صوت، والإنسان الذي ينقب في روحه عن بصيص أمل. إنه مخرجٌ يحمل أسئلة كبرى على كتفيه، ثم يلقيها بين يدي المتفرج ليجد الأخير نفسه غارقًا في بحرٍ من التفكير.
الركح كمرآة للحياة
يقولون إن حاتم الحشيشة لا يؤمن بالمسرح كمجرد فن، بل يراه طقسًا إنسانيًا. لذلك، تأتي أعماله دائماً كمرآة تعكس وجوه البشر المتعبة، وصراعاتهم الصغيرة التي تتجمع لتصنع المأساة الكبرى. في "ملحمة القصبة"، جعل من التاريخ رحلة في دهاليز الهوية، وفي "موجة وتقميرة" أعاد للبحر لغته المفقودة، بينما ظل يحاول، في كل مرة، أن يجيب عن السؤال الأزلي: ماذا نفعل هنا؟
الفن الذي يولد من شقاء الإنسان
حاتم الحشيشة لا ينفصل عن قضايا محيطه. بالنسبة له، الركح هو المجال الذي يُترجم فيه الإنسان فشله ونجاحه، نضاله وانكساراته. لهذا كان قريبًا من الناشئة، يزرع فيهم بذور الفن كوسيلة للتعبير عن ذواتهم وكحماية من صخب العالم. يُؤمن أن المسرح، بأضوائه وظلاله، هو الملجأ الأخير الذي يمكن أن ينقذ الأرواح الضائعة.
الصمت الذي يتحدث
في كواليس عروضه، حاتم قليل الكلام لكنه عميق الحضور. يشير بيديه، يرفع حاجبيه، يتنهد بصمت، لكن ملاحظاته تُحدث الفرق. كأنما يوجه مسرحيته ليس فقط للممثلين، بل للعالم بأسره، كأنه يقول: "العالم خشبة ونحن جميعًا ممثلون".
حاتم الحشيشة.. الإنسان والمسرحي
في حياة حاتم الحشيشة، لا حدود بين الركح والواقع. ربما لهذا يبدو دائمًا وكأنه يعيش في مسرحية لا تنتهي، يتحرك بخفة ممثلٍ يعرف مكانه على الخشبة، ويتحدث بعمق كاتبٍ يختبر الحياة في كل كلمة. بالنسبة له، المسرح ليس مجرد فن، بل هو فعل وجود، هو صرخة في وجه العدم، وهو اللحظة التي نلتقي فيها بذواتنا الحقيقية.
حاتم الحشيشة، عاشق الركح، صانع الأحلام، ورفيق الأسئلة التي تتحدى الزمن. على خشبة الحياة، يواصل هذا الفنان رحلته، غير آبهٍ بالنهاية، لأن المسرح بالنسبة له ليس إلا بداية لا تنتهي.