تشهد تونس في السنوات الأخيرة تحولات اجتماعية وأمنية متسارعة، أفرزت واقعا معقدا يتسم بارتفاع معدلات الجريمة وتنوع أشكالها، مما يفرض تساؤلات جوهرية حول مدى قدرة الدولة على احتواء الظواهر الإجرامية ومعالجتها معالجة جذرية، فالجريمة لم تعد مجرد أفعال معزولة أو منحرفة عن السياق العام، بل أصبحت ظاهرة مترسخة تعكس أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية متشابكة وتستلزم بالتالي استجابة متعددة الأبعاد تتجاوز الحلول الأمنية التقليدية التي أثبتت محدوديتها، وبين تصاعد جرائم القتل وارتفاع الجرائم الإلكترونية واستفحال الفساد المالي وتنامي المخاطر الإرهابية وتفشي المخدرات بين الشباب باتت التحديات أكثر تعقيدا ما يجعل البحث عن حلول مستدامة ضرورة ملحة وليس مجرد خيار مطروح.
مقالات ذات صلة:
حين يصبح التبليغ جريمة والفساد امتياز
جريمة مروّعة في قفصة: زوج يقتل زوجته ويحاول إخفاء الجريمة!
الرئيس السوري الجديد يرفض خطة ترامب لشراء غزة: جريمة لن تحدث!
ففي مقدمة الجرائم التي أثارت قلقا متزايدا خلال السنوات الأخيرة تأتي جرائم قتل النساء التي شهدت تصاعدا خطيرا حيث ارتفع عددها من 6 جرائم فقط سنة 2018 إلى 23 جريمة في النصف الأول من عام 2023 قبل أن يصل إلى 25 جريمة بحلول نهاية العام ذاته، وتوزعت هذه الجرائم بين حالات قتل على يد الأزواج، الآباء، الإخوة، والأقارب، في مشهد يعكس عمق الأزمة داخل الفضاء العائلي حيث يفترض أن تكون المرأة في مأمن لكنها تتحول إلى ضحية لعنف قاتل ينطلق غالبا من دوافع اجتماعية مترسخة تجد جذورها في مفاهيم السيطرة والتملك التي لم تفلح التشريعات وحدها في القضاء عليها، ورغم أن القانون التونسي شهد تطورا ملحوظا في تجريم العنف ضد المرأة إلا أن ضعف آليات الحماية والتطبيق جعل العديد من الحالات تتفاقم حتى تصل إلى حد القتل مما يطرح الحاجة إلى استراتيجيات أكثر صرامة تشمل التوعية الوقاية وتفعيل العقوبات الرادعة.
وفي موازاة هذه الظاهرة، سجلت الجرائم الإلكترونية تصاعدا غير مسبوق حيث تم تسجيل أكثر من 2000 قضية في سنة 2024 وحدها شملت جرائم الاحتيال الإلكتروني، الابتزاز، التصيد، واختراق البيانات؛ هذا الارتفاع عكس تحول الفضاء الرقمي إلى بيئة خصبة للنشاط الإجرامي في ظل توسع استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وغياب ثقافة الوعي الرقمي لدى شريحة واسعة من المجتمع، ورغم سن تشريعات لمكافحة الجرائم السيبرانية إلا أن تطور أساليب التحايل جعل من ملاحقة الجناة تحديا مستمرا، خاصة مع اعتماد العديد من هذه الجرائم على خوادم خارجية وشبكات إجرامية منظمة، وإذا كان التصدي لهذه الجرائم يتطلب تعزيز الإمكانيات التقنية للأجهزة المختصة، فإن الجهد الأكبر يجب أن يوجه نحو نشر الوعي الرقمي وتعزيز الثقافة الأمنية لدى المستخدمين تفاديا للوقوع ضحايا لهذه الجرائم.
ولا يمكن الحديث عن تفشي الجريمة دون التطرق إلى الجرائم ذات الطابع الأمني حيث شهدت تونس تسجيل 1565 قضية إرهابية في سنة 2018 ما عكس استمرار التهديد الإرهابي رغم الضربات الأمنية الموجهة إلى التنظيمات المتطرفة فهذه الجماعات وإن تراجعت قدرتها على تنفيذ عمليات واسعة لا تزال تستغل الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية لتجنيد الشباب مستفيدة من مشاعر الإحباط والحرمان التي تدفع البعض إلى البحث عن بدائل حتى وإن كانت في مسارات متطرفة، وإذا كان الحل الأمني ضروريا لمكافحة الإرهاب فإن المعالجة الجذرية لهذه الظاهرة تتطلب استراتيجيات موازية تستهدف القضاء على الأسباب العميقة التي تؤدي إلى الاستقطاب عبر سياسات تنموية وبرامج تربوية وإصلاحات اقتصادية توفر بدائل حقيقية تمنع الشباب من الوقوع في براثن التطرف.
وفي سياق آخر، تستمر الجرائم الاقتصادية والمالية في التأثير سلبا على الاستقرار الوطني حيث يتزايد حجم الفساد، الرشوة، غسيل الأموال، والتهرب الضريبي، وسط غياب آليات رقابية فعالة، فقد شهدت تونس خلال السنوات الأخيرة قضايا فساد كبرى تورط فيها مسؤولون حكوميون ورجال أعمال ما عكس مدى تغلغل هذه الظاهرة داخل أجهزة الدولة، ورغم أن الحكومات المتعاقبة رفعت شعارات مكافحة الفساد إلا أن غياب إرادة سياسية فعلية وضعف مؤسسات الرقابة جعلا هذه الجهود محدودة التأثير بل وأحيانا انتقائية لا تطال إلا القضايا التي تخدم صراعات سياسية دون أن تصل إلى جذور المشكلة، ويظل الفساد أحد أكبر العوائق أمام أي مشروع تنموي إذ إنه لا يكتفي بنهب الموارد بل يقوض الثقة في المؤسسات ويضعف مناخ الاستثمار ويعزز الشعور بالإفلات من العقاب مما يستدعي إصلاحات حقيقية تقوم على ترسيخ الشفافية وتعزيز آليات الرقابة وتفعيل القوانين بشكل صارم لا يستثني أحدا.
أما على مستوى الجرائم المرتبطة بالمخدرات، فقد كشف مسح وطني أجراه المعهد الوطني للصحة سنة 2023 أن نسبة استهلاك المخدرات بين التلاميذ ارتفعت من 1.3% سنة 2013 إلى 8.9% سنة 2023 ما عكس خطورة الظاهرة ومدى تأثيرها على الفئات الشبابية، ولم يعد الإدمان مجرد مشكلة صحية بل تحول إلى عامل رئيسي في ارتفاع معدلات الجريمة، إذ أن العديد من حالات السرقة، العنف، وحتى القتل، تعود في جذورها إلى استهلاك المخدرات أو السعي لتأمين المال اللازم للحصول عليها، ورغم الحملات الأمنية التي استهدفت شبكات التوزيع إلا أن تفشي الظاهرة يشير إلى أن الحلول القمعية وحدها غير كافية ما لم يتم اعتماد مقاربة أكثر شمولا تشمل الوقاية، العلاج، والتأهيل الاجتماعي للمستهلكين بهدف إعادة إدماجهم وتقليص فرص عودتهم إلى الإدمان.
أمام هذا المشهد المتشابك، اتضح أن ارتفاع معدلات الجريمة في تونس ليس مجرد مسألة ظرفية أو نتيجة لأحداث معزولة بل هو انعكاس مباشر لأزمة بنيوية تستوجب إعادة نظر جذرية في السياسات المتبعة فالمقاربة الأمنية رغم أهميتها لا يمكن أن تحقق نتائج مستدامة ما لم تكن مدعومة بإصلاحات اقتصادية تعالج الفقر والبطالة وبرامج اجتماعية تعزز التماسك الأسري واستراتيجيات تربوية تكرس ثقافة القانون والمسؤولية، فتجاهل الأسباب العميقة للجريمة والاكتفاء بردود الفعل الآنية لن يؤدي إلا إلى تفاقم الوضع ما يجعل البحث عن حلول حقيقية قائمة على رؤية شاملة ضرورة ملحة لضمان استقرار المجتمع وأمنه، وإذا كان الحديث عن خطر الجريمة لم يعد جديدا فإن التحدي الأكبر اليوم يتمثل في قدرة الدولة والمجتمع على تبني استراتيجيات جريئة لا تكتفي بملاحقة الظواهر بل تستهدف الأسباب الجذرية سعيا نحو بناء منظومة أكثر عدلا، وأمنا واستدامة.