في تونس، حيث يفترض أن يكون القانون أداة لحماية الصالح العام ومحاسبة المفسدين نجد أن الممارسة الفعلية تعكس تناقضا صارخا بين التشريعات والواقع، إذ يتحول المبلغ عن الفساد من فاعل في مكافحة التجاوزات إلى ضحية لنفس المنظومة التي يحاول تصحيح مسارها، وبينما ترفع الشعارات حول الشفافية والمساءلة يتعرض من يكشف الحقائق إلى ضغوط قد تصل إلى حدّ التصفية الوظيفية أو الاجتماعية، بل وحتى القانونية في حين يتمتع الفاسدون بامتيازات تتيح لهم الإفلات من المحاسبة مستفيدين من تواطؤ مؤسساتي يجعل من الفساد قاعدة ومن التبليغ عنه استثناءً محفوفا بالمخاطر.
مقالات ذات صلة:
السجن عامين لرجل أعمال ومدير سابق لسجن المرناقية في قضية فساد
السجن لمدة سنتين لمسؤولة بوكالة التبغ والوقيد بتهمة الفساد المالي
رفض الإفراج عن رئيس جمعية النادي الصفاقسي عبد العزيز المخلوفي في قضايا فساد مالي
هذا التناقض لا يعكس فقط خللا في تطبيق القانون، بل يطرح إشكالية أعمق تتعلق بطبيعة السلطة في تونس وحدود استقلالية المؤسسات خاصة أن القانون الأساسي عدد 10 لسنة 2017 الذي أقر لحماية المبلغي بقي حبرا على ورق في كثير من الحالات، فبينما يفترض أن يضمن هذا الإطار القانوني عدم تعرض المبلغ لأي انتقام وظيفي أو قانوني أو اجتماعي نجد أن العديد ممن كشفوا ملفات فساد أصبحوا أهدافا مباشرة لحملات تشويه أو محاكمات كيدية أو قرارات إدارية تعسفية ما يؤكد أن المشكلة ليست في غياب التشريعات، بل في غياب الإرادة السياسية لتفعيلها بشكل يضمن المساواة أمام القانون بغض النظر عن طبيعة الأطراف المتورطة.
ولا يمكن فهم هذه الظاهرة بمعزل عن السياق السياسي والاقتصادي الذي تتحرك داخله مؤسسات الدولة حيث تسيطر شبكات مصالح متشابكة تربط بين رجال أعمال نافذين ومسؤولين إداريين وساسة مؤثرين ما يجعل من الفساد منظومة محصنة أكثر منه مجرد حالات معزولة؛ وفي هذا السياق يتحول القضاء الذي يفترض أن يكون سلطة مستقلة إلى ساحة تتجاذبها الولاءات السياسية والمصالح المتضاربة مما يجعل من مبدأ المحاسبة مفهوما انتقائيا يطبّق حسب ميزان القوى القائم لا وفقا لقاعدة العدل والإنصاف.
وتتفاقم هذه الإشكالية عندما تصبح أجهزة الرقابة نفسها جزءا من معادلة التواطؤ حيث تستغل آليات مكافحة الفساد إما لتصفية حسابات سياسية أو لاحتواء ملفات حساسة دون المساس بجوهر المنظومة الفاسدة، وبهذا تتحول مؤسسات يفترض أن تكون أدوات للإصلاح إلى أدوات للحماية ليس حماية الصالح العام، بل حماية الفاسدين أنفسهم مما يكرس منطق الإفلات من العقاب ويفرض معادلة جديدة يصبح فيها التبليغ عن الفساد فعلا محفوفا بالمخاطر بينما تمارس السلطة الحقيقية بعيدا عن أي شكل من أشكال الرقابة الحقيقية.
إن تفكيك هذه البنية لا يمكن أن يكون عبر تعديلات قانونية معزولة، بل يتطلب تحولا جذريًا في العلاقة بين الدولة والمجتمع يقوم على إعادة تعريف مفهوم السلطة بصفته مسؤولية خاضعة للمحاسبة لا امتيازا قابلا للاستغلال، فالقوانين وحدها مهما كانت محكمة لا يمكنها أن تحقق العدالة في غياب إرادة فعلية لتطبيقها على الجميع دون استثناء ودون انتقائية تخضع لموازين القوى السياسية، كما أن استقلالية القضاء تظل حجر الأساس في أي عملية إصلاح إذ لا يمكن لأي منظومة قانونية أن تكون فاعلة طالما بقيت أجهزة إنفاذ القانون خاضعة لضغوط توجه قراراتها حسب المصالح القائمة.
لكن الإشكال لا يقتصر على البعد القانوني أو المؤسساتي فقط، بل يمتد إلى عمق البنية الثقافية والاجتماعية حيث لا يزال التبليغ عن الفساد ينظر إليه باعتباره مخاطرة غير مأمونة العواقب، في ظل غياب ضمانات حقيقية لحماية المبلغين وتغلغل عقلية الولاء قبل الكفاءة في مختلف مفاصل الدولة، وفي ظل هذه المعادلة يصبح الصمت استراتيجية بقاء بينما يتحول كشف الفساد إلى فعل استثنائي محفوف بالعقوبات ليس لأن القانون يجرمه بل لأن المنظومة الفاسدة لا تسمح بكسر قواعد لعبتها.
ولذلك، فإن أي محاولة جادة لمكافحة الفساد لا بد أن تنطلق من إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة عبر آليات واضحة تحمي المبلغين وتعيد هيكلة المؤسسات الرقابية لتكون مستقلة فعلا عن كلّ التأثيرات السياسية أو الاقتصادية، كما أن الإعلام والمجتمع المدني يمثلان حجر الزاوية في هذه المعركة حيث يمكن لهما أن يمارسا دورا رقابيا يضمن عدم استفراد السلطة بالملفات وعدم طمس الحقائق عبر أدوات القمع الناعمة.
لكن الأهم من ذلك، هو إحداث تغيير ثقافي يجعل من التبليغ عن الفساد مسؤولية جماعية لا عبئا فرديا يتحمله شخص بمفرده في مواجهة منظومة معقدة، فحين يصبح كشف الفساد ثقافة عامة وتتحول المحاسبة إلى قاعدة لا استثناء عندها فقط يمكن الحديث عن إصلاح حقيقي لا عن إجراءات ظرفية توظف حسب الحاجة السياسية، وإلى ذلك الحين سيبقى السؤال قائما متى يصبح الفاسد هو المتهم والمبلغ هو المحمي، لا العكس؟