اختر لغتك

اغتيال البراءة 

اغتيال البراءة 

في لحظة تعجز فيها لغة القانون عن توصيف هول الفاجعة وتقف معها مفردات الإنسانية عاجزة عن الإحاطة بأبعادها تجد تونس نفسها اليوم في مواجهة جرائم بشعة ترتكب في حق الطفولة بما يهدد ليس فقط كيان الدولة، بل أيضا أسس العقد الاجتماعي الذي تقوم عليه فكرة العيش المشترك، إذ إن مشاهد الخنق والذبح التي طالت أطفالا أبرياء لم تعد للأسف أحداثا معزولة وإنما تحولت إلى ظاهرة خطيرة تنذر بانهيار مزدوج أخلاقي وقانوني وهو ما يستدعي وقفة تأمل نقدية حول أسباب هذه الجرائم وسبل مواجهتها في إطار الدولة القانونية.

مقالات ذات صلة:

قضية النفايات: أحكام بالسجن لعدد من المتهمين وبراءة وزيري البيئة السابقين

حكم البراءة للفنانة الكويتية حليمة بولند في قضية الفسق والفجور

رئيس كونكت: احترام للقضاء والتزام بمبادئ البراءة في وجه إيقافات رجال الأعمال

لقد بات واضحا أن الاعتداء على الطفل في تونس اليوم لا يمثل مجرد انتهاك عرضي للقانون، بل يكشف عن خلل عميق في وظيفة الدولة كجهاز حمائي للحقوق والحريات وعلى رأسها الحق في الحياة باعتباره الحق الطبيعي والأسمى الذي كرسته جميع المواثيق الدولية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948، الذي نص في فصله الثالث على أن "لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه"، إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966 الذي أكد في فصله السادس على أن "لكل إنسان الحق الأصيل في الحياة"، ومرورا باتفاقية حقوق الطفل لسنة 1989 التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة وصادقت عليها تونس بموجب القانون الأساسي عدد 92 لسنة 1995 المؤرخ في 9 نوفمبر 1995 والتي تنص في مادتها السادسة على أن "لكل طفل الحق الأصيل في الحياة وتكفل الدول الأطراف إلى أقصى حد بقاء الطفل ونموه"، فضلا عن اتفاقية حماية الطفل من كافة أشكال العنف المعتمدة من مجلس أوروبا لسنة 2007، واتفاقيات إقليمية أخرى تؤكد التزامات الدول تجاه حماية الطفولة.

وعلى الصعيد الوطني، كرس الدستور التونسي لسنة 2022 الحق في الحياة بشكل واضح، إذ نص الفصل 23 على أن "لكل إنسان الحق في الحياة والحرية، والكرامة والسلامة الجسدية والمعنوية"، كما نص الفصل 47 على أن "حقوق الطفل محفوظة ومحمية طبقا لما تضمنته الاتفاقيات الدولية المصادق عليها" وأكد أن "على الدولة حماية الطفل من كافة أشكال العنف والضرر والاستغلال"، ويضاف إلى ذلك أن مجلة حماية الطفل الصادرة بالقانون عدد 92 لسنة 1995 تعد المرجع الأساسي لحماية حقوق الطفل في تونس إذ عرفت الطفل في الفصل الثاني منها بكونه "كل إنسان لم يتجاوز من العمر ثمانية عشر عامًا كاملا"، ونصت في الفصل 19 على منع "كل مساس بسلامة الطفل البدنية أو المعنوية"، كما تضمنت المجلة في بابها الثاني أحكاما تتعلق بالحماية الاجتماعية والقضائية للطفل المهدد وأقرت إحداث مندوب حماية الطفولة كسلطة مختصة للتدخل الفوري.

أما من حيث العقوبات، فقد جاء في المجلة الجزائية التونسية (القانون الجنائي) وخاصة في الفصل 201 منها وما بعده النص على العقوبات القصوى بخصوص جرائم القتل العمد مع سابقية القصد والتي تصل إلى الإعدام، كما أفرد المشرع بفصول خاصة الجرائم التي تستهدف الأطفال أو القاصرين، حيث نص الفصل 218 مكرر على تشديد العقوبة إذا كان الضحية طفلا وتضاف إلى هذه الأحكام أحكام القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة الذي نص في فصوله على حماية خاصة للأطفال المتواجدين في محيط العنف الأسري، فضلا عن ذلك فإن القانون عدد 33 لسنة 2004 المؤرخ في 19 أفريل 2004 المتعلق بإتمام مجلة حماية الطفل نص على إحداث آليات جديدة للتدخل لفائدة الطفل المهدد ومنها التدخل الوقائي والاستباقي.

ومع ذلك، تكشف الوقائع أن المسافة بين النصوص القانونية والواقع المعيش ما تزال شاسعة وأن الحماية القانونية لا تزال شكلية في غياب منظومة ناجعة للوقاية والتدخل الفوري، إذ إن الحق في الحياة الذي يحتل قمة هرم الحقوق لا يجوز المساس به تحت أي ظرف وهو حق يرتب على الدولة التزاما مضاعفا في حماية الأطفال باعتبارهم الفئة الأضعف في المجتمع والأكثر عرضة لانتهاكات قد تنتهي كما رأينا إلى القتل العمدي، وتثير هذه الجرائم البشعة سؤالا جوهريا حول مدى نجاعة الآليات القانونية والمؤسساتية المكفولة لحماية الطفل ومدى التزام الدولة بتفعيل هذه الآليات على نحو يجسد مقتضيات الدستور والاتفاقيات الدولية.

وإذا كانت الدولة بوصفها "الحامية القانونية" لأمن الأفراد وباعتبارها صاحبة الاختصاص الحصري في احتكار العنف المشروع لحماية الحقوق، فإنها اليوم تبدو وكأنها تتخلى عن هذا الدور لصالح فوضى أصبحت فيها أرواح الأطفال مستباحة، وما يزيد الوضع خطورة أن النصوص القانونية على أهميتها أثبتت محدوديتها حين لا تقترن بإرادة سياسية صارمة لتطبيقها وبإجراءات عملية لحماية الأطفال من مخاطر الإيذاء، وعلى الرغم من أن المشرع التونسي قد أرسى جملة من الضمانات القانونية عبر مجلة حماية الطفل التي اعتبرت خطوة هامة في حينها إلا أن الواقع العملي كشف هشاشة هذه الحماية أمام تصاعد جرائم العنف ضد الأطفال، كما أن الفصل 201 وما بعده من المجلة الجزائية يفرض أقصى العقوبات على مرتكبي جرائم القتل العمد والتي تصل إلى الإعدام غير أن تكرار هذه الجرائم يبرز قصور العقوبة الزجرية وحدها عن تحقيق الردع العام في ظل ضعف الآليات الوقائية التي من شأنها أن تحول دون وقوع الجريمة أصلا.

والأدهى من ذلك أن غياب آليات فعالة للتشخيص المبكر لمواطن الخطر المحدق بالطفل سواء داخل الأسرة أو المدرسة أو الشارع يجعل التدخل غالبًا متأخرا أي بعد وقوع الجريمة، وبما أن التنسيق الفعلي بين الأجهزة الأمنية والقضائية والاجتماعية يكاد يكون غائبا أو مشلولا فإن منظومة حماية الطفولة تبقى أقرب إلى إعلان نوايا منه إلى سياسة عمومية متكاملة وفعالة.

وعليه، بات من الضروري تجاوز المقاربة الزجرية المحضة والمرور إلى رؤية شاملة تدمج بين الوقاية والردع وهو ما يقتضي إعادة هيكلة كاملة لمنظومة حماية الطفولة وفق تصور يدمج الأبعاد القانونية والاجتماعية والنفسية، ويستدعي خطورة الوضع جملة من الإجراءات الملحة منها ضرورة إحداث مرصد وطني مستقل لحماية الطفولة يتولى رصد الانتهاكات وتنسيق الجهود بين مختلف المتدخلين وإعادة النظر في مجلة حماية الطفل لتشديد الإجراءات الوقائية وفرض إلزامية التبليغ عن كل حالة تهديد أو سوء معاملة وتعزيز دور مندوبي حماية الطفولة بموارد بشرية متخصصة في علم النفس والقانون والعمل الاجتماعي بما يمكنهم من أداء مهامهم بفعالية وتطوير آليات التبليغ السريع عبر إحداث خط وطني أخضر يعمل بصفة مستمرة للتبليغ الفوري عن كل اعتداء، مع ضمان تدخل قضائي وأمني سريع وإحداث وحدات متخصصة في البحث في جرائم العنف ضد الأطفال تعمل وفق منهجيات علمية دقيقة تجمع بين التحقيق الأمني والدعم النفسي وتفعيل برامج الرقابة والمتابعة القضائية للأشخاص الذين ثبتت خطورتهم على الأطفال، مع إمكانية إصدار أوامر بمنع الاقتراب أو الخضوع لعلاج نفسي إلزامي واعتماد مقاربة وطنية شاملة في التربية والإعلام تهدف إلى ترسيخ ثقافة احترام الطفل كقيمة عليا في المجتمع بما يستدعي إعادة النظر في المناهج التربوية والخطاب الإعلامي.

إن حماية الطفولة ليست مسألة جزئية أو قطاعية إنما هي جوهر السياسات العمومية للدولة وهي ما يعطي لفكرة الدولة القانونية بعدها الحقيقي، وإن فشل الدولة في حماية الطفل كأضعف عنصر في المجتمع قد يكون سقوط لمشروع الدولة ذاته وانهيار لما يفترض أن يشكل الحد الأدنى من التعاقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع، وإذا كانت الاتفاقيات الدولية قد ربطت احترام الحقوق الأساسية للطفل بمشروعية الدولة في القانون الدولي، فإن استمرار هذه الجرائم يهدد صورة تونس في المحافل الدولية، ويجعلها محل مساءلة قانونية وأخلاقية فقتل الطفل هو لحظة انفجار لكل أزمات المجتمع، ومن ثم فإن حماية الطفل اليوم معركة وجود للدولة ذاتها.

Please publish modules in offcanvas position.