القلق ظاهرة حضارية وضريبة يدفعها الانسان المعاصر من ذهنه وفكره واعصابه وهو يتلقى يوميا هذا الزخم الهائل من المؤثرات والاصداء والانطباعات في عالم شديد الحركة, سريع التطور زاخر بالوقائع والاحداث الجسام والثورات في شتى مجالات النشاط الانسانى هذا القلق يسري في دمه يدب في كيانه يتغلغل في أدق شعيراته, ينفعل به، يطل من عينيه وهو يقاتل او يبني, يتمزق أو يحلم.
هذا النوع من القلق الحسي العنيف، قلق مقدس ونبيل لانه قلق ايجابي وخلاق, كان ولا يزال وراء معظم الانجازات الحضارية للبشرية عبر مسيرتها التاريخية الطويلة وأحد بواعث الخلق والابداع في العديد من حقول المعرفة الاساسية.
وبالرغم من هذه الصفة الشمولية للقلق, الا انه يبرز عند الفنان والشاعر والكاتب ورجل الفكر عموما على نحو أكثر حدة وعنفا, فالإنسان المبدع الذي يكون في العادة شديد الوعي لقضايا عصره ومفرط الحساسية إزاء هموم الاخرين وتطلعاتهم لا يمكن يكون الا قلقا حينما يقتحم المجهول ويكتشف ذاته والعالم من حوله, ولكن هذا القلق المبدع الخلاق حين يتحول الى أرق ليلي مزمن يصبح شيئا لا يطاق.
قبل سنوات معدودات مضت كنت نهبا للقلق، لا اعرف مصدره، وأرق ليلي لا أزعم أنه كان من هذا النوع ولكنه على أي حال لم يكن عاملا ايجابيا بل على النقيض من ذلك كنت اعتبره مدمرا لانه أخذ يدمر حياتي.
كنت أظل طوال الليل كالوتد المشدود بقوة وكان رأسي يضج بالايقاعات الصاخبة لعصرنا ولم يكن في وسعي أن ارد عني اصدءاها الا مع طلوع الفجر! كان هذا قبل سنوات, أما اليوم فأنعم بنوم هادئ وطويل بفضل بعض الاكتشافات المهمة التي لا يعرف معظم القراء على ما ظن أي شي عنها.
إنني أنصح لقارئ الكريم الذي ينتابه الأرق اللعين احيانا أن ينتفع بتجربتي المتواضعة في هذا المجال وأن يقرأ قبل النوم بعض قصائد ما بعد الحداثة, لانني شخصيا حين أقرأها أشعر باني عدت قرنا كاملا الى الوراء, الى اوئل القرن العشرين, زمن المانيفيستات الأدبية والتيارت الفنية فى العواصم الأوروبية الراعية للأدب والفن مثل باريس وروما وبطرسبورغ في (العصر القيصري)، وأسرح في عالم جميل مضى دون رجعة زاخر بلوحات فنية سوريالية وتكعيبية وتعبيرية وانطباعية ورمزية ومستقبلية وقصائد هرمية ومستطيلة ومربعة ودائرية تتشكل من كلمات متراصة ورموز وعلامات ترقيم وتنوين وتعجب.
نتاجات تهوّم معها لأنها انطباعات حسية وانطباعية خفيفة تساعد على الاسترخاء أكثر من الوسائل الأخرى مثل المساج, بيد أن الوسيلة الاكثر فعالية في التغلب على الارق القراءة التأملية لتلك النماذج من قصص ما بعد الحداثة التى يعشقها الجيل الجديد من كتاب العربية ومقلديهم من الكتاب الكرد لأنها خالية تماما من كل ما يثير الذهن أو يبعث على التفكير، قصص تتغلغل بإشعاعتها الفرويدية الى اعماق اللاوعي والعقل الباطن، فيستسلم الانسان في هدوء لاحلام جميلة ويداعب النعاس أجفانه ولا يستيقظ الا مع الفجر.
إنها تجربة مفيدة أردت أن أشرك فيها أولئك القراء الذين يعانون من القلق والأرق ولا تكلف كثيرا, لأن الدواوين الشعرية والمجاميع القصصية لشعراء وكتاب ما بعد الحداثة تباع على أرصفة الشوارع لدى باعة الكتب المستعملة بأسعار زهيدة لا ترهق الجيوب الخاوية لكتاب ما بعد الحداثة وما فوق الحداثة.
ميدل ايست أونلاين