انطلقت أغلب المهرجانات الصيفية التونسية لهذا الموسم الثقافي تقريبا في مواعيدها ؛ورغم الوضعية الاقتصادية للبلاد ،تمت برمجة عروض مميزة لم يراهن منظموها على الميزانية المرصودة من وزارة الشؤون الثقافية بل على مداخيل شباك التذاكر وإقبال التونسيين عليها ،وقد كان الحضور الجماهيري كبيرا على الرغم من ظروف التونسي المعيشية الصعبة ،ولعل مرد ذلك ما يعانيه من ضغوط جعلته يلتجئ لأي وسيلة للترفيه حسب المتاح..
وسأقتصر في هذا المقال على العروض المسرحية التي كانت حاضرة بشكل ملفت وسجلت أرقاما قياسية من حيث عدد الحضور وحسب تقييمي الشخصي فقد انقسمت الفئة المبدعة لأب الفنون إلى صنفين أساسين وصنف ثالث يكاد حضوره يكون منعدما.
الصنف الأول من جائزة الجمهور لهذا العام حسب تقديري فاز بها كل من جعفر القاسمي بمسرحيته الجديدة درابو والتي كانت أمام شبابيك مغلقة في أغلب العروض سواء في المهرجانات الدولية أو الجهوية وحتى المحلية منها وربما يعود ذلك لما حققه هذا الفنان من عمق في العلاقة بالتونسي ومحافظته على الصدق في التعامل العفوي وتقاسم الهموم سواء في برامجه التلفزية والاذاعية أو في المعاش اليومي ونجحت مسرحية درابو نجاحا ساحقا لأنها سعت للم الشمل الوطني بعد انقسامات وتجاذبات سياسية مقيتة عبثت بخصوصية الوحدة الوطنية التونسية ..وكان جعفور أحد القامات الفنية التي آمنت بضرورة إعادة التونسي لوطنه وهويته وسحر انتمائه ، وقد تقاسمه هذا التميز شاب موهوب لا تعتبر تجربته في المسرح تجربة طويلة لكنه أثبت أنه متطور مجتهد ومن غيره المبدع كريم الغربي ،وهو من خريجي المعهد العالي للفن المسرحي ومن اكتشافات برنامج لاباس لنوفل الورتاني مثله مثل الفنان المتميز بسام الحمراوي ، وشخصيا وعلى الرغم من إيماني بقوة موهبته وغزارة ارتجاله إلا أني كنت دائما أسميه "فنان بلا نص .". حتى جاءت visa فيزا،هذا العمل الذي رأينا فيه الرجل يظهر ما له من طاقات فنية كبيرة ساعده في ذلك تجاربه في الإعلام والتي أكسبته شهرة ساعدت في انتشاره وإقبال الناس على عرضه الفني وخصوصا في مهرجان قرطاج ونجاحه الكبير في الفوز بثقة من حضر ،ولعلي لمست في هذا العمل تلمسا لخطى العملاق الأمين النهدي في الحركة والنبرة وتقمص الشخصيات بشكل مدروس مع بعض المبالغات أحيانا والتي أرى ان كريم في غنى عنها.
وتأتي معهم في نفس المرتبة القديرة وجيهة الجندوبي رغم قلة العروض لهذا العام نظرا لتواصل نجاح هذا العرض لمواسم وهي من القلائل التي رسخت قدمها في فن الممثل الواحد وأثبتت تميزها في أكثر من مناسبة ،ليأتي في مرتبة ثانية الفنان بسام الحمراوي الذي يواصل عرضه القديم الجديد مايسترو والذي اعتبر ه ، وعلى الرغم من نجاحه ليس هو العمل الذي يظهر طاقة هذا العملاق ..
وفي نفس الدرب للنجاح يقف الشاب الموهوب وليد الزين والذي يجتهد لبلوغ المراتب الأولى والصعود على ركح أعرق المهرجانات وسيصل لحلمه طالما واصل في البحث عن هذه المرتبة ،لنصل لعروض أخرى لم ترتق لمرتبة عرض مسرحي لضعف في النص أو الإخراج أو عدم انتباه أصحابها لصعوبة التونسي في احكامه الانطباعية الظالمة في معظمها ولن أذكر الأسماء كي لا يلومني أصحابها خصوصاً وأن أغلبهم أصدقاء شخصيين، ولعل من المؤسف أن لا نرى المسرح الكلاسيكي والجاد في معظم مهرجانتنا وهو تقصير صارخ من وزارة الشؤون الثقافية والتي ذهبت في المنحى التجاري وبعض المنزلقات الخطيرة على المبدع التونسي مما انجر عنه ظلم فنانين كبار أمثال لطيفة القفصي ولطفي العكرمي و ليلى الشابي ونجوى ميلاد وصلاح وسهام مصدق والقائمة تطول ،حتى ان بعضهم كاد يبلغ مرحلة النسيان لدى الجمهور على الرغم من تجربته الطويلة بإستثناء العمل الفني التاريخي صفاقس 1881 الذي انتجه مركز الفنون الدرامية لصفاقس نص الأستاذ علي البوكادي وإخراج الرائع حاتم الحشيشة ،وقد نجح هذا العمل في صفاقس لالتصاقه بتاريخها وقد شارك فيه عدد من كبار المسرح وأقطابه في الجهة،إظافة لعدد من الشبان الذين تميزوا في السنوات الأخيرة كالممثلة الشابة نوال المانعي والتي يتنبأ لها الكثير من النقاد بمستقبل فني كبير.
وغاب تقريبا مسرح الطفل كالعادة عن مسارحنا ولم نر غير عروض تجارية غير مدروسة الأهداف رغم أهمية وخطورة ذلك على الناشئة ،لذلك فكرت شخصيا في عرض يعطي للطفل حقه في الحضور بعمل فني مدروس يضمن الفرجة والمتعة ويدعم المواهب لدى الأطفال سترونه قريبا.
ويبقى من أجمل ما تابعنا هو التفاعل الايجابي والتشجيع المتبادل بين الفنانين لبعضهم البعض وهو سلوك كدنا نفتقده في الفترة الأخيرة ،وربما هذا التغير الايجابي في عقلية الفنان التونسي ولو كان طفيفا سيخدم المسرح ويخلق تنافسا نزيها يستفيد منه بالنهاية الجمهور المستهلك،
سأقرأ ردود فعل مختلفة مما كتبت حسب الأهواء والمستويات الثقافية والمعرفية بالمجال وخارجه بين رافض لهذا التصنيف أو مؤيد له وهنا أعيد التأكيد على أن هذا النص ليس إلا رأيا شخصيا يلزمني لوحدي ..عاش المسرح ودام فرحك يا وطن ..