الوضع سيزداد قساوة مع احتمال بلوغ سعر صرف اليورو 3.5 دنانير وسعر صرف الدولار 3 دنانير بنهاية العام.
عندما ظهر محافظ البنك المركزي، مروان العباسي، لأول مرة أمام الإعلام بعد توليه منصبه في مارس الماضي، أقر بصعوبة حماية الدينار، في ظل تراجع احتياطات العملة الصعبة، وحملت تصريحاته حينها غيمة تشاؤم لم تأخذها الحكومة بجدية.
تداعيات تلك الأزمة برزت بوضوح هذا الأسبوع حيث آثار التراجع المتسارع لقيمة الدينار تدافع رجال الأعمال والشركات وتجار العملة في السوق السوداء على شراء العملة الصعبة لتخزينها تحسبا لأي انزلاقات جديدة غير متوقعة، مع ضبابية المشهد السياسي، وعودة المخاوف من تكرار عملية شارع بورقيبة الإرهابية.
كثيرة هي المؤشرات التي تدل على أن الدينار يسير إلى المجهول، سواء أكان الأمر في علاقة بالمناخ السياسي السيء والمكبل للنمو الاقتصادي، أو بتلك الضغوط الخفية القادمة من الاتحاد الأوروبي، الشريك التقليدي لتونس، لتحرير العملة بهدف ضخ المزيد من الاستثمارات.
قلق الأوساط المالية التونسية يتسع يوميا حول هذه المشكلة، وتتفاقم تحذيراتها من الانعكاسات الخطيرة لهذا الانحدار، الذي يعكس خللا في التوازنات المالية، في ظل ارتفاع مستوى التضخم وشلل معظم محركات النمو.
صفارات الإنذار من مخاطر محتملة قد تضرب الاقتصاد في الفترة المقبلة أطلقت بقوة بعد صدمة الهجوم الإرهابي الأخير، حيث عجلت باقتراب سعر صرف اليورو من حاجز 3.3 دنانير في التعاملات الرسمية مع المصارف، بينما لامس الدولار حاجز 2.9 دينار، وهو أعلى مستوى من الانخفاض تصله العملة المحلية في تاريخها.
الأمر سيزداد قساوة على الأرجح مع احتمالات بلوغ سعر صرف اليورو 3.5 دنانير أو أكثر من ذلك، وسعر صرف الدولار 3 دنانير بنهاية هذا العام كما يتوقع معظم المحللين، ما سيفاقم محنة صنّاع السياسات المالية بين مواجهة ارتفاع التضخم وغليان الأسعار وبين حماية النمو الضعيف، في رحلة شاقة للصمود والابتعاد عن شبح الإفلاس غير المعلن قدر المستطاع.
ستكون الاستثمارات المحلية والشركات الصغيرة والمتوسطة أكثر المتضررين من تدهور قيمة الدينار، والذي سيضعها أمام خيارات صعبة من أجل تفادي المزيد من الخسائر، التي تكبدتها طيلة السنوات الأخيرة رغم الإصلاحات الحكومية القاسية للسيطرة على الأوضاع الاقتصادية قبل خروجها عن السيطرة تماما.
مساعي المركزي لوقف النزيف المستمر منذ الهجمات الإرهابية في عام 2015 لم تكن مجدية باعتباره فاقدا للصلاحيات التي تخول له التدخل للحفاظ على استقرار قيمة الدينار في السوق، فسياسته الحالية يستمدها بموجب قانون صدر في عام 2016، رمى بالمسألة بعيدا عن السلطة النقدية وباتت من مشمولات السلطة التنفيذية.
البنك المركزي في حاجة ملحة إلى ضمانات لتدخل جزئي لضبط سوق العملة، فقد اشترط كبح العجز التجاري بشكل أكبر بوقف الاستيراد لعدة أشهر، أو فرض المزيد من القيود على الواردات الكمالية مع زيادة الصادرات، كما أن المشكلة، في نظره، تكمن في مدى قدرة الحكومة على تقليص عجز الميزانية والمتوقع أن يبلغ هذا العام 5 بالمئة إلى الناتج المحلي الإجمالي.
هذان العاملان في حال سرعت الحكومة من وتيرة تنفيذهما سيتيحان استقرار سعر صرف الدينار في السوق الرسمية على قاعدة قانون العرض والطلب بعيدا عن أي تدخل من المركزي، وسيمنحاه مرونة لمراقبة والتحكم في الاحتياطيات النقدية، التي تراجعت كثيرا منذ 2011 لتصل إلى أقل من 3.9 مليار دولار.
ورغم أن الحكومة الحالية تتحمل جزء من مسؤولية تبخر احتياطات العملة الصعبة، التي كانت تبلغ في عام 2010 أكثر من 13.5 مليار دولار، مع احتساب فارق سعر الصرف بين الفترتين، إلا أن المركزي يتحمل مسؤولية أكبر كونه لم يفعل قانون الصرف، الذي يتيح له التدخل لمنع تحويل الشركات الأجنبية أرباحها بالعملة الصعبة إلى الخارج.
تظل أزمة الدينار، على أهمية حلها، ومع اقتراب الانتخابات التشريعية والرئاسية العام المقبل، بعيدة عن دائرة السياسيين الغارقين في تجاذباتهم العقيمة. فلا مؤشرات توحي بأن هناك مساعي جادة للخروج من المأزق حتى لا تتضرر بقية الأنشطة التجارية، خاصة مع الضغط المسلط على تونس لإبرام اتفاقية التبادل الحر والشامل والمعمق (أليكا) مع الاتحاد الأوروبي.
لا تقف المشكلة عند ذلك، فارتفاع أعباء خدمة ديون الدولة الإجمالية، والتي تشير التقديرات إلى أنها تبلغ نحو 26.6 مليار دولار، يشكل ضغوطا إضافية على العملة المحلية، في ظل تأكيد الحكومة على أن السياسة النقدية للدولة لا تستهدف في الوقت الحاضر تعويم الدينار، مع أن المسألة لا تزال تثير جدلا واسعا بين الأوساط الاقتصادية.
رياض بوعزة / صحافي تونسي