يتساءل كثيرون في تونس وخارجها: لماذا اختار الرئيس الباجي قائد السبسي فترة بداية الصيف وشهر رمضان ليفتح ملف تغيير الحكومة؟ لماذا لم ينتظر بداية الموسم السياسي؟
لقد اعتاد التونسيون منذ أربعين سنة تموّجات نمطية في السنة السياسية، إذ تتسم عادة بالهدوء في الصيف، بسبب حرارة الطقس وعادة الاصطياف لدى التونسيين، ثم يبدأ الشدّ والجذب في الخريف، على أن يبلغ أشدّه في فترة الشتاء، ثم يهدأ شيئاً فشيئاً مع حلول الربيع. هكذا يتكيف الموسم السياسي بالمناخ مثل تكيّف الزراعة.
لكن في هذه السنة، حدث الاستثناء وطرح الرئيس مبادرته في الصيف، ولم تبلغ هدفها المعلن إلى حدّ الآن، وهو تشكيل حكومة ائتلاف وطني تجمع الأحزاب الكبرى والمنظمة النقابية الأساسية ومنظمة أصحاب المؤسسات الاقتصادية، استئناساً بما كان قد أقدم عليه الزعيم بورقيبة في بداية الاستقلال ليواجه التحديات الخطيرة التي كانت تحيط بالدولة الفتية.
إنّ تقديم موعد تغيير الحكومة الذي كان منتظراً بعد الصيف دليل على خطورة التحديات القائمة في تونس حالياً، إذ يبدو أن قائد السبسي أراد أن يستغل هدوء الصيف للدفع نحو تشكيل حكومة أكثر قوة وتجانساً، وهو يعلم مع ذلك أنه يقدم على مجازفة كبرى، إذ قد تطول المشاورات وتفشل أو تؤدّي إلى حكومة أضعف من سابقتها. ومن المستبعد أن يكون قد راهن حقّاً على تشريك النقابة العمالية في الحكومة، فهو يعلم كما تعلم النقابة أنّ السلطات التونسية قد أرسلت بتاريخ 2 أيار (مايو) الماضي «مذكرة إعلان نوايا» لصندوق النقد الدولي تتضمن قرارات لا يمكن للنقابة أن تقبلها أو تدافع عنها، ولا حتى للحكومة أن تعلم بها الشعب بصراحة وشفافية.
لكنّ ثمة شعوراً عاماً بأنّ سنوات ما بعد الثورة ضربت الاقتصاد بعمق، ودمّرت آلة الإنتاج، وزادت من جحافل العاطلين من العمل بخاصة الشبان، ورفعت نسب التضخم، وجفّفت منابع رئيسة لموارد الدولة، مثل السياحة (بسبب الإرهاب) واستخراج الفوسفات (بسبب الإضرابات)، وأخلت إخلالاً بالغاً بالميزان التجاري. وأنه سيحلّ قريباً موعد دفع الحساب، فلكلّ شيء ثمنه.
لقد ظلت آثار هذا الوضع الاقتصادي محـــدودة نسبياً حتّى الآن بسبب سياسة الاستدانة المفرطة التي اعتمدتها كل الحكـــومات المتعاقبة منذ الثورة، فارتفعت نسبـــة المديونية من 40 في المائة من الدخـــل القومي سنة 2010 إلى حوالى 55 فــــي المائة السنة الحالية. ولما بلغت سبل الاستدانة حدّها، تم الالتجاء إلى صندوق النقـــد الدولي، باعتباره الملاذ الأخير للبلدان المتعثرة، مع ما يفرضه من شروط معلومة أدّت في الغالب إلى مآلات معلومة أيضاً.
ومن المصادفة أن الكتاب الشهري لـ «عالم المعرفة» (الصادر عن المجلس الوطني للثقافة بالكويت) كان موضوعه الشهر الماضي تعريب مؤلف الاقتصادي الألماني أرنست فولف «صندوق النقد الدولي»، وفيه تاريخ تدخلات الصندوق منذ تأسيسه وما آلت إليه البلدان التي تدخل فيها، من أميركا اللاتينية في السبعينات، مروراً بالاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا السابقين في التسعينات، إلى اليونان وقبرص حالياً. ومنه نعلم مثلاً أنّ «خطاب النوايا» ذاته خدعة يستعملها الصندوق «كي يعطي الانطباع بأنّ البلد المتعثر هو الطرف الذي اقترح على الصندوق هذه الإجراءات»، وفق صاحب الكتاب، وأنّ كل تدخلاته انتهت بمزيد من إفقار الشعوب إن لم يكن تمزيق الأوطان أحياناً.
من المستبعد حينئذ أن تقبل النقابة العمالية المشاركة في حكومة سيعهد لها بتنفيذ قرارات صندوق النقد، لكن المرجح أن الرئيس لم يكن غرّاً عندما دعاها إلى هذه المشاركة، وإنما كان يسعى إلى ضمان الحدّ الممكن من تفهّمها للوضع وإكراهاته بغية التخفيف من شكوك خبراء الصندوق وبقية الدائنين، على أن يعهد للحكومة القادمة بمهمة البحث عن التوازنات الممكنة بين خطة الإصلاح الهيكلي المفروضة من الصندوق وتطلعات الشعب.
ويرى العديد من التونسيين أنّه كان بالإمكان تجنب تدخل صندوق النقد لو فُتح نقاش جادّ وذو مصداقية حول الوضع الاقتصادي للبلاد، وتمّ التدقيق في مصارف القروض والهبات السخية التي حصلت عليها تونس منذ الثورة، وإلزام المؤسسات الاقتصادية والأثرياء وأصحاب المداخيل المرتفعة بدفع ما عليهم من ضرائب، ومحاربة الفساد المستشري في كل مكان بالأفعال لا بالكلمات. وعندما يشعر الناس بالثقة والصدق، سيُقبلون من تلقاء أنفسهم على التضحية والالتزام بالكدّ والعمل وإيقاف الإضرابات والمطالبات بزيادات الأجور وغيرها من المنافع التي لم يعد ممكناً تلبيتها.
لكن واقع الحال أن كل طرف ظلّ يرمي بالمسؤولية على الآخر، فكانت النتيجة دخول صندوق النقد طرفاً رئيسياً في الموضوع، يسلب البلد جزءاً من استقلاليته المالية والاقتصادية.
فكيف يمكن في المستقبل التوفيق بين دستور البلاد الذي تنصّ بنوده حرفياً على حقوق لا يمكن أن تتوافر لمواطني أكثر الدول ثراء في العالم، مثل الحق الدستوري في العمل، والدراسة المجانية ذات الجودة إلى المستويات العليا، والعدالة الاجتماعية، والتنمية المستدامة، والتوازن بين الجهات، والحق في الماء، وفي البيئة السليمة الخ...، و «رسالة النوايا» التي تتعهّد بتخفيض سعر العملة المحلية الذي ينتج حتماً ارتفاعاً كبيراً في الأسعار، ومنع المصرف المركزي من إقراض الحكومة إلا في الحالات القصوى، والسماح للمؤسسات الأجنبية بسحب أموالها بكل حرية، وتخفيض عمّال القطاع العام والامتناع عن تقديم فرص عمل خلال السنوات القادمة في هذا القطاع، وتقليص الدعم في المواد الأساسية، وخصخصة جزء من مؤسسات القطاع العام، الخ...؟
قليل من الناس اطلعوا على مذكرة التفاهم هذه التي لم تناقش علناً ولا حتى في البــرلمان، لكنّ قليلين أيضاً ما زالوا يتذكرون مــواد دستور 2014. لقد تحوّلت السياسة إلى نقاشات فارغة ومعارك حول الأشخاص، وغابت الكفاءات وهُمّش المثقفون، وتكاثر المشعوذون من كلّ صنف، في الدين والدنيا والسياسة والاقتصاد، ولن يكون يسيراً على الحكومة القادمة أن تواجه أوضاعاً متفجرة وتعهدات متناقضة وانتظارات متباينة.
لا تحتاج تونس إلى تغيير حكومي فحسب، بل تحتاج إلى تغيير في الممارسة السياسية برمتها، وهذا أمر لا يمكن أن يتحقّق بمبادرات السياسيين أنفسهم.