قطع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، على نفسه وعداً بأن ينقل السفارة الأميركية إلى القدس، ونفذ هذا الوعد في مناسبة تاريخية تصادف الذكرى السبعين للنكبة الفلسطينية وإنشاء دولة إسرائيل، وحقق ترامب بقراره حلماً انتظرته إسرائيل طويلاً، حتى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، اعتبر هذه الخطوة "تاريخية أدخلت ترامب التاريخ". ولكن من أي باب دخل، وأي تاريخ؟
تشكل اللحظة انتصاراً لفريق مسار تحريف التاريخ وكتابته من وجهة نظر الطرف الذي يمتلك القوة في هذا الظرف، أي الولايات المتحدة وإسرائيل، والدليل على ذلك أن هذا الأمر لا يلقى قبولاً من أي طرف. لا الأمم المتحدة وافقت عليه، ولا الاتحاد الأوروبي الذي رفض المشاركة في مراسم نقل السفارة، الإثنين.
قد تكون الخطوة تاريخية، ولكنها في جوهرها تعني قفزة فوق التاريخ الفعلي والحقيقي لهذه المنطقة، وتخلق مناخاً بالغ الخطورة لأن إدارة ترامب تتصرف منذ وصولها إلى البيت الأبيض من دون أي احترام للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة فيما يتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني، وما حصل، أمس، يؤكد أنها تتعامل مع القضية الفلسطينية من المنظور الإسرائيلي، وهذا ما عبر عنه نتنياهو في خطابه عندما احتفى على نحو خاص بترامب وعائلته، واعتبرهم أقرب أصدقاء إسرائيل.
لا يسقط ترامب فقط الحقوق الوطنية الثابتة والمشروعة للشعب الفلسطيني، وإنما يدوس على مشاعر العرب والمسلمين حينما يعتبر أن القدس عاصمة أبدية لـ"الشعب اليهودي"، ويقدم مبرراته على أسس دينية مغرقة في الرجعية، تصب ضمن رؤية اليمين المتطرف، الإسرائيلي والأميركي القائمة على الأوهام والأكاذيب حول تاريخ فلسطين.
وأضح أن هؤلاء لا يخفون أنّ هذه الخطوة ذات حمولة دينية صرفة كما صرحت زوجة الملياردير اليهودي شيلدون أديلسون (إمبراطور الكازينوهات) الذي مول حملة ترامب في حديثها بالعبرية، أمس، إلى إحدى قنوات التلفزة الإسرائيلية، حينما قالت "هذه الخطوة من أجل مواجهة الإسلام"، وهذا يعني تحويل النزاع العربي الإسرائيلي إلى صراع ديني، الأمر الذي يغذي التنظيمات الإرهابية التي تعيش على هذه الأطروحة.
ورغم أن التوظيف الديني للصراع بات مبتذلاً، فهو لا يزال يحظى بالتفاف من حوله في المعسكرين، ويقود إلى إعادة الكرة إلى المربع الأول بعد أن قطعت المنطقة شوطاً هاماً على صعيد تجاوز هذه المطبات، وتم وضع القضية في نصابها كقضية حقوق مشروعة وأرض محتلة وفق القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.
من الواضح أن الرئيس الأميركي لم يكن ليصل إلى هذه النقطة لو لم يستغل الظرف العربي الراهن، فهو من جهة حصل على ضوء أخضر من طرف أهم بلدين عربيين في المنطقة، السعودية ومصر، وعلى أساس ذلك بنى صفقة القرن، وهذا يفسر صمت القاهرة والرياض أمس، حيث لم يصدر عنهما أي رد فعل يدين الخطوة في حين جاءت المواقف الرافضة من أوروبا، حتى أن جنوب أفريقيا استدعت سفيرها احتجاجاً على مذبحة غزة التي سقط من جرائها 59 شهيداً، ولم تحرك دولة عربية واحدة ساكناً، بل إن مصر ضغطت على قيادة حركة "حماس" من أجل منع مسيرة العودة، واكتفت بنقل التهديدات الإسرائيلية للحركة.
زمن عربي رديء، قبل أن يصل قادة صفقة القرن العرب إلى سدة القرار في السعودية ومصر والإمارات، لكن هؤلاء يعملون على نحو مدروس ومنظم في اتجاهين: التطبيع مع إسرائيل، وتشكيل قوة ضغط على الطرف الفلسطيني كي يوقع على التنازل عن القدس كعاصمة لدولة فلسطين، وهي آخر محطة في تصفية القضية الفلسطينية ودفن مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة.
اليوم يحضر التاريخ كمسخرة تحيل إلى نكبة عام 1948. بعد 70 عاماً يعيد العرب اللحظة القاسية ذاتها.. لحظة التفريط بفلسطين.