الصفحة 3 من 4
عرقلة مسار التعاون
هذه السياسة العسكرية التركية المتزامنة على الحدود السورية والعراقية، ليس لها ما يفسرها إلا تكريس واقع احتلال الشريط الحدودي داخل كل من سوريا والعراق، مستغلة فرصة تفكك القرار المركزي وضعف الحكومة في بغداد، والسكوت المريب لإدارة إقليم كردستان عن هذا الوضع، إذ استغلت تركيا هذا الوضع السياسي المتردي تماما كما فعلت باستغلال تحركات المسلحين في سوريا للقيام بعمليات متكررة بدءا من 2016 عبر “درع الفرات”، ثم “غصن الزيتون” في 2018 التي قامت باحتلال أراضي سورية في كل من جرابلس، وأعزاز، والباب وصولا إلى عفرين، وإدلب وإلى أبواب حلب، وحماة.
أدى اكتشاف حقول الغاز في شرق المتوسط في كل من حقول تمارا، واللوثيان، وأفروديت، وحقل ظهر إلى اندلاع شرارة صراع معقد، وقابل للاشتعال في ظل استمرار المشكلة القبرصية، والنزاع العربي – الإسرائيلي، والحرب الأهلية في سوريا، واضطراب الوضع في العراق، وجدل محاولات ترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط.
هنا تبرز طبيعة النزاعات الجيوسياسية ذات الدافع الاقتصادي، فباتفاق مع حكومة فايز السراج في ليبيا تريد تركيا الحفاظ على صفقات تجارية وعقود قديمة تصل إلى حوالي 20 مليار دولار في كل من بنغازي وسبها وطبرق ومناطق في الجنوب الليبي نظير تقديم دعمها العسكري لحكومة الوفاق.
تُضاف إلى كل هذا مواجهة اتفاقية مصر – قبرص، ووضع معيقات أمام اليونان في تحركها للدفاع عن نيقوسيا وتوحيد الجزيرة من جديد. ثم إن مذكرة التفاهم تخول لتركيا، اعتمادًا على مبدأ الجرف القاري الذي يمتد إلى أكثر من200 ميل، الادعاء بأن كونها تملك أطول شريط بري ساحلي في شرق المتوسط يمنحها حق إجراء تنقيب دون عوائق جغرافية وسياسية في مساحات شاسعة تصل إلى أكثر من 800 كلم في منطقة البحار العليا، وهو منطق منافٍ لقانون البحار، وبالتالي حرمان الجزر اليونانية المتاخمة لها من حقوقها البحرية الخاصة.
لذلك فإن الاتفاقية البحرية هدفها الأساسي هو تطويق كل من مصر وقبرص في شرق المتوسط، بإعادة رسم ملامح الوضع الجيو – سياسي القائم حاليا من جهة، ثم إنه يستهدف اتفاقية قبرص – اليونان، ووضع حجر عثرة أمام خط الأنابيب المعروف بـ”إيست ميد” من جهة أخرى، كما أنه في العمق يهدف إلى الزيادة في مساحة منطقتها الاقتصادية الخالصة لتصل إلى 189 ألف كيلومتر مربع، بينما ستضيق بفعله المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص المعترف بها ومصر، لصالح إسرائيل.
الاتفاقية البحرية المبرمة مع حكومة السراج هدفها تطويق كل من مصر وقبرص في شرق المتوسط، بإعادة رسم ملامح الوضع الجيوسياسي القائم حاليا
وهنا يبرز للعلن الخلاف الطويل تاريخيا بين قبرص وتركيا، وعدم اعتراف الاتحاد الأوروبي بقبرص التركية وهذه الأخيرة بقبرص اليونانية، ما يضيف إلى اكتشاف غاز شرق البحر المتوسط اختلافا في المصالح الاقتصادية والحدودية، حيث قامت قبرص التركية بإعطاء ملكية حقوق التنقيب لشركة تركية، لكن العديد من بلدان شرق المتوسط عمدت إلى تبني قواعد اتفاقية 1982 لقانون البحار لترسيم الحدود البحرية بينها، وهو ما كان بين مصر وقبرص واليونان، وبين لبنان وقبرص حيث تنتظر الاتفاقية المبرمة أن يصادق عليها مجلس النواب اللبناني.
ومن ثم، فإن قيام تحالف ثلاثي بين اليونان وقبرص ومصر، وقفت منه تركيا موقف العداء لأنها تريد أن تكون نقطة تجميع محورية من دون غيرها في تصدير الطاقة سواء من الشرق إلى الغرب، أو من الجنوب إلى الشمال.
كما تعتبر علاقات تركيا مع جيرانها متوترة جراء سياساتها الخارجية مع كل من مصر وقبرص واليونان التي تطالب بحل للأزمة القبرصية بناء على قرارات الأمم المتحدة، وهو ما ترفضه تركيا، إذ تدعي تركيا أن 44 بالمئة من المنطقة الاقتصادية الخاصة تعود إليها، وهو ما يفسر توقيع اتفاقية بحرية مع حكومة فايز السراج، والتي توسع حدود الجرف القاري التركي على حساب قبرص واليونان وجزرها، وتحديدا كريت ورودس.
عمليا، قامت تركيا بمحاولات عرقلة عديدة لوقف عمليات تنقيب الشركة الإيطالية “إيني” في جنوب غرب قبرص بتوجيه بوارج تركية في 9 فبراير 2019، متذرعة بحق قبرص التركية في المناطق رقم 1 و2 و3 و8 و9 و12 و13 التي تدخل في إطار ترسيم قبرص اليونانية لحدودها البحرية مع جميع بلدان شرق المتوسط والتي لا تعترف بها تركيا، وهو ما عدته قبرص عملا عدائيا موجها ضدها، كما أنها قامت بالتنديد بإجراء مصر واليونان مناورات ميندوزا5 العسكرية البحرية.
إجمالا، يستهدف الاتفاق التركي البحري مع حكومة الوفاق اتفاق مصر واليونان وجعله غير ذي أهمية، كما أن تركيا لا تنظر بعين الرضا للتحالف الذي يحاول ضم كل من مصر ولبنان والأردن والسلطة الوطنية الفلسطينية وقبرص واليونان وإسرائيل في الاستفادة الجماعية من حقول شرق المتوسط، ووضع خط أنابيب ممتد إلى أوروبا، وهو ما تعتبره تركيا وإيران موجها ضدهما. كما أن الإعلان عن منتدى مصدري الغاز الجدد في شرق البحر المتوسط بقنوات وصل جديدة يونانية وإيطالية، يثير مخاوف كبرى لدى تركيا وإيران من أن يكون مستقبلا نواة تحالف جديد في الطاقة.
وبالتالي، فإن الاتفاق البحري الجديد مع حكومة الوفاق يقطع الطريق على إمكانية نقل الغاز من أماكن متنازع عليها شرق البحر المتوسط إلى أوروبا من دون التفاوض مع الجانب التركي، وهو ما تسعى إلى فرضه في الحقيقة تركيا.
استشعرت العديد من بلدان شرق المتوسط مبكرا أطماع تركيا، وسعت إلى ترسيم الحدود البحرية بينها تفاديا لنزاعات أو الدخول في صراعات عسكرية كبيرة من شأنها أن تهدد مصالحها في الاستكشاف والتنقيب والاستغلال.
ولكل هذا عمدت قبرص إلى عقد عدة اتفاقيات مع دول المنطقة، وفي هذا الاتجاه منحت عدةَ شركات أميركية وروسية وفرنسية عدة رخص للتنقيب حتى تتمكن من ردع التحرشات شبه العسكرية التي تقوم بها القوات البحرية التركية.
وبالتالي هددت قبرص باعتقال أي طاقم تركي يسعى إلى التعرض لسفن التنقيب التابعة لها، كما عمدت اليونان والبحرية الليبية إلى سدِّ منافذ طرق جزيرة كريت البحرية في وجه السفن التركية، وأرسلت فرنسا فرقا عسكرية إلى قبرص، ثم قامت إيطاليا في 10 ديسمبر الحالي بإرسال الفرقة البحرية “مارتيننجو” إلى ميناء لارنكا القبرصي، ثم تبنى الكونغرس الأميركي في 17 نوفمبر 2019 قرارين برفع حظر بيع السلاح إلى قبرص الساري المفعول منذ ثلاثين سنة، فيما قدم القرار الثاني دعما أمنيا لقبرص، وأدان الاتحاد الأوروبي تركيا في عمليات التنقيب الجارية، ثم قامت قبرص بشراء طائرات دون طيار لحماية منطقتها الاقتصادية الخاصة (ZEE).
هذا الموقف يجعل تركيا في عزلة تامة عن جميع الفرقاء المعنيين بالطاقة في شرق المتوسط دون استثناء، ويبرر ذلك خشيتها من محاولة ظهور لاعبين جدد في مجال الطاقة، بخاصة منتدى غاز شرق المتوسط ورغبته في مد أنابيب غاز موصولة مباشرة بأوروبا دون المرور بأراضيها أو نقاطها البحرية، لذلك قامت بحفر حوالي 73 بئرا في عام 2018، ثم وضعت أجندة حفر حوالي 140 بئرا في عام 2019، حيث تريد أنقرة الحصول على النصيب الأوفر من الكعكة.
رغم الأهداف الخفية والمعلنة، لا يمكن أن يوضع الاتفاق الليبي – التركي بين أردوغان والسراج إلا في خانة التلاعب بتناقضات ظرفية في هذه اللحظة من المناوشات الإقليمية والدولية المتفاقمة وتعدد أحلافها في شرق المتوسط. لكن ليبيا لا تقع في الجوار التركي، ومكوناتها بعيدة عن أي علاقات استثنائية تبرر الإعلان عن هذا التدخل السافر فيها، هذا في الوقت الذي وضعت حكومة الوفاق أنفها في مشاكل أكبر منها دون إدراك التكلفة باهظة الثمن على مسار الحل السياسي الداخلي، ومضاعفة التعقيدات بخيوط الأزمة الراهنة في ليبيا.
إن منطق السياسة التركية الحالية يقوم على حرب أيديولوجية على قاعدة الإسلام السياسي يتبناها حزب العدالة والتنمية كسلاح في مواجهته مع الجميع، ومن ثم تخبط سياسة تركيا الخارجية، فهي عاجزة عن أن تميز بين الأصدقاء والأعداء والحلفاء والمنافسين على حد سواء، ذلك أن الانشغال بقضايا أيديولوجية دينية من شأنه أن يغذي المزيد من الأوهام داخل أنصار الحزب وتيارات الحركات الإسلامية السياسية في العالم العربي، ويجعلها وقودا جديدا لإشعال حرائق جديدة تجعل العالم العربي لقمة سائغة في أيدي قوى خارجية.