تشهد الجالية اليهودية في الولايات المتحدة الأمريكية ثاني أكبر تجمع لليهود بعد إسرائيل خلافات علنية بارزة هذه الأيام حول إسرائيل ووجوب دعم الجالية لها والدفاع عنها، الأمر الذي دفع الإعلامي اليهودي الأمريكي المشهور (فيليب ويس) للقول يوم الأربعاء الماضي الموافق 14/7/2021 على صفحات موقع موندويس المشهور في الولايات المتحدة الأمريكية أن “اللوبي اليهودي في أمريكا قد (نَفس) أو فرغ من الهواء الذي كان منفوخاً به”، مما سمح وفقا لقول الكاتب لمنظمة (أمريكانز من أجل السلام) إتهام إسرائيل بالعنصرية (الأبارتايد).
وتتميز الجالية اليهودية الأمريكية عن غيرها من التجمعات اليهودية حول العالم بأنها الأكثر ثراءً، والأكثر قدرة على صناعة الراي العام والتأثير فيه من خلال إمتلاك افراد من هذه الجالية لأهم وسائل الإعلام ودور النشر ومراكز صناعة السينما داخل أمريكا وخارجها، علاوة على حرص أثريائها الظاهر على الإستثمار في أهم الصناعات الإستراتيجية الأمريكية كصناعات الدواء، والإتصالات، والتكنولوجيا، والبنوك والتأمين وغيرها من الصناعات، الأمر الذي عزز من مكانة وتاثير الجالية اليهودية رغم صغر حجمها، حيث أنها لا تمثل أكثر من 1,9% من إجمالي عدد سكان البلاد، في الحياة السياسية الداخلية والخارجية، لا سيما في ما يتعلق بعلاقة أمريكا بدولة إسرائيل وأمنها في المنطقة.
وقد دفع الوضع القوي للجالية اليهودية في أمريكا إسرائيل إلى الإستثمار كثيراً بطرق علنية وغير علنية في تنظيم وتأطير الجالية وتوظيف مكانتها وممكناتها الإقتصادية والإعلامية في التاثير على السياسة الخارجية للدولة بما يخدم إسرائيل ومصالحها، من خلال تنظيم حملات للضغط على أعضاء الكونجرس والإدارة، بما في ذلك إستثمار الجالية في تمويل الحملات الإنتخابية للرؤساء والشيوخ والنواب وحكام الولايات، الأمر الذي تجلى أيما تجلي في منظمة الإيباك (AIPAC) لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية التي تأسست العام 1963 وتعتبر أقوى جمعيات الضغط على أعضاء الكونجرس بهدف تحقيق الدعم الأمريكي لإسرائيل (المالي والعسكري والسياسي والقانوني والإعلامي).
تجدر الإشارة هنا أنه ولأسباب متعددة كان من أبرزها تطور الإتصالات وسهولة نقل المعلومات قد ساهما أيما مساهمة في نقل بعض من حقيقة الإحتلال وبشاعته للرأي العام العالمي، لا سيما الرأي العام الأمريكي، الأمر الذي كان له بالغ الأثر في خلخلة رواية مجموعات الضغط اليهودية وضعف تأثيرها تدريجيا على الجاليات اليهودية في الدولة.
من جهتها إلتقطت رادارات أجهزة الإستخبارات الإسرائيلية مبكراً حالة التشظي التي تشهدها الجالية اليهودية في أمريكا، وكذلك حالة التحول في الرأي العام الأمريكي خاصة الرأي العام في أوساط الجاليات اليهودية، وقدمت على ضوء ذلك توصياتها أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة لحثها على سرعة العمل على رأب الصدع داخل الجاليات اليهودية الأمريكية، وبين هذه الأخيرة ودولة إسرائيل لما يمثله ذلك من تهديدات للأمن القومي الإسرائيلي، الأمر الذي تجلى في أكثر من تقرير من التقارير الإستراتيجية السنوية الصادرة عن كل من شعبة الإستخبارات العسكرية، ومعهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب.
وعلى الرغم من إستثمار إسرائيل الضخم عملاً ومالاً لرأب هذا الصدع، إلا أن هذه التصدعات والشروخ آخذة في الإتساع والتزايد، الأمر الذي يمكن الإستدلال عليه في نتائج المسوح وإستطلاعات الرأي المتواترة التي تصدر عن المؤسسات الأكاديمية والمتخصصة في قياس الرأي العام.
ويعتبر البيان الصادر عن منظمة يوم الثلاثاء الموافق 13/7/2921، والذي أعلنت فيه وللسنة الثانية على التوالي أنها لن تعقد مؤتمرها السنوي في مارس العام القادم قرينة إضافية على حالة التفسخ والإنقسام التي تشهدها الجالية.
صحيح أن السبب في إلغاء الإجتماع السنوي وفقاً لبيان الإيباك يعود لحرص المنظمين على سلامة الأعضاء من الإصابة بوباء الكورونا، إلا أن بعض المراقبين خاصة اليهود منهم يدحضون هذا الإدعاء ويرون أن هذا مجرد حجة واهية، حيث بالإمكان عقد اللقاء عبر تقنية الزوم والفيديو، ويوضحون بالمقابل أن الإلغاء قد جرى لأسباب تعود لحالة التشظي والتمزق التي تشهدها المنظمة والجالية نتيجة لتلاشي حالة الإجماع الآخذة في الإزدياد في أوساط الجالية، لا سيما في أوساط الأجيال تحت سن الأربعين من العمر الذين لم يعودوا يروا في إسرائيل نموذج جاذب لهم، مما أدى إلى عزوفهم وإنزياحهم نحو منظمات أخرى مثل (الصوت اليهودي للسلام، ومنظمة إذا ليس الآن؟) الأمر الذي ترك منظمة الإيباك الأن تعتمد على أعضاء من كبار السن من الأثرياء اليهود والجمهوريون، مما يعني أن تأثيرها على السياسة الخارجية الأمريكية آخذ بالأفول.
وقد سبق بيان منظمة الإيباك هذا نشر معهد الهيئة الإنتخابية اليهودي في أمريكا نتائج إستطلاع رأي نفذه المعهد على عينة من الهيئة الإنتخابية ليهود أمريكا تكونت من 800 شخص للوقوف على نظرتهم لإسرائيل ولعلاقة أمريكا معها ونشرت أهم نتائجه وسائل إعلام أمريكية يوم الأربعاء الماضي من الشهر الجاري.
حيث أظهرت نتائج هذا الإستطلاع أن 25% من الجالية اليهودية الأمريكية يؤمنون أن إسرائيل دولة عنصرية (أبارتايد)، وأن هذه النسبة ترتفع إلى 38% في أوساط الشباب تحت سن الأربعين، كما أظهرت النتائج أن 34% من الجالية يعتقدون أن معاملة إسرائيل للفلسطينيين تشبه عنصرية أمريكا، وترتفع هذه النسبة الى 43% في أوساط من هم أقل من 40 سنة، وأظهرت النتائج كذلك أن 22% من الجالية اليهودية الأمريكية تعتقد أن إسرائيل تمارس التطهير العرقي والإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، وترتفع هذه النسبة الى 33% في أوساط الشباب تحت سن الأربعين، كما أظهرت النتائج أن 20% من الشباب اليهودي الأمريكي تحت سن الأربعين يعتقدون أن إسرائيل ليس لها حق بالوجود.
المفارقة هنا أنه يمكن بسهولة ملاحظة أنه فيما يزداد المجتمع اليهودي في إسرائيل وكذلك الجالية اليهودية الأمريكية تفسخاً وتشظياً لأسباب متعددة يقع الإحتلال والعنصرية الإسرائيلية في القلب منها، تزداد بالمقابل حالة إنقسام النظام السياسي الفلسطيني وتزداد كذلك حالة تآكل شرعيته وثقة الشعب في قدرته على مواجهة المشروع الصهيوني الإستعماري في فلسطين، الأمر الذي يوجب على أصحاب الرأي من الفلسطينيين والعرب أخذه بالحسبان في جدلهم وسجالهم المهيمن على المجتمع الفلسطيني هذه الأيام حول بعث المشروع التحرري الفلسطيني من جديد.
المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي